أطلَّ علينا في هذا العام 1442هـ كتابٌ مهمٌ في بابه، وثريٌ بمعلوماته، وبِكر في عناوينه، حيث تكمنُ أهمية الموضوع في ارتباطه بطريق الحج لإقليمٍ سار على هذا الدرب طيلة أربعة عشر قرناً من الزمان، والمعلومات حوله متناثرة في بطون الكتب، وجَمعُها يحتاج إلى جهدٍ وطاقةٍ من باحثٍ كالشيخ الحرز -سلّمه الله-، فالمؤلِّف غنيٌ عن التعريف بعطائه التاريخي والتوثيقي، والكتاب يأخذ بمجامع همّة القارئ منذ البداية وحتى النهاية، وذلك لقيمة الكتاب ومحتواه الذي قلّ من تحدّث عنه في بطون الكتب المعنية، فأتى المؤلِّفُ على جمع شتات تلك المعلومات ويعالج وضعها في لوحةٍ رائعةٍ من روائع درره التي يبثّها في بحوثه.
جاء الكتاب ليسد ثغرة في تاريخ طُرقِ الحج، حيث من كتب عن طرق الحج الأُخرى كثير، مثل: طريق الحاج العراقي والشامي والمصري واليمني، إلا أن طريق الحاج الأحسائي لا توجد عنه إلا إشارات سريعة في بحثٍ هنا أو هناك، فجاء هذا الكتاب ليساهم في سد الفجوة في طرق الحج. والجميل أن الباحث الشيخ جاء بالشواهد وفق التسلسل التاريخي، منذ العصور الإسلامية الأولى مروراً بدولة القرامطة فالعيونيين والعصفوريين، ودور الجبريين في مدّ جسور التواصل بين الأحساء والحجاز، مع إسهام كبيرٍ في حفظ طريق الحجيج، كالتصدّي لقطّاع الطرق واستقطاب العلماء إلى الأحساء، ودعم التجارة بين المنطقتين، وتكثير الأعطيات للمجاورين في الحرمين، ثم عن دور آل مغامس فالدولة العثمانية الأولى ودورها في العناية بطريق الأحساء - الحجاز؛ ليأتي الدور في إكمال المسيرة على دولة بني خالد وعنايتهم بالحجيج وطرق الحجيج.
لم يغفل الشيخ الحرز عن مناقشة المصاعب والمخاطر ذات الصلة بطريق الحاج، مع ذكر الجهود المبذولة في تأمين طريق الحج لكل دولة من الدول المذكورة، والتعريف بالمصطلحات القديمة عند الجغرافيين والبلدانيين القدماء، مع ذكر المسافة بين الأحساء والحجاز والعوامل المؤثرة في تحديد طريق الحج، حيث هناك طريق مباشر إلى مكة المكرمة وهذا حال استتباب الأمن حيث كان الطريق - بإيجاز - من الأحساء إلى اليمامة يمرُّ بدرب برجد فحوجّان مروراً بدرب مزاليج (الحني) ثم من اليمامة مروراً بالحريق والقويعية إلى عفيف فالبديعة ثم المويه ثم إلى مكة المكرمة، وهناك طريق غير مباشر حال وجود شيء من القلاقل والفوضى التي يثيرها مشاغبو الطريق من قطّاع الطُرق في مواقع القبائل التي يمر عليها طريق الحاج الأحسائي.
كذلك كان من ضمن محتويات الكتاب عدد الحجاج الذين يسلكون هذا الطريق، وانتماءاتهم العرقية، حيث يلتحق بموكب الحاج الأحسائي جماعة كثيرة من إيران والبحرين وعُمان وقطر والكويت والهند، وذلك نتيجة للجهود المبذولة في تأمين طريق الحاج الأحسائي بجهود أمرائها، يضاف في هذا الصدد أن المؤلف جاء على ذكر أمراء الحج الأحسائي في زمن كل دولة، وعن دور أمير الحاج ومواصفاته، نظراً للمهمة الكبيرة التي يتولاها أمير الحاج كمعرفته بالمواقع، وحسن تصرّفه في الأزمات كونه يمثّل الدولة التي تحكم منطقة الأحساء. ومع أن كسوة الكعبة كانت تُصنع في أماكن متعددة، فقد كان للأحساء شرف صناعة كسوة الكعبة وذلك في عهد الدولة السعودية الأولى، وعهد الدولة السعودية الثالثة، مع تعريجٍ وتعريف بأماكن حياكتها، حيث عُرفت الأحساء واشتهرت بصناعة النسيج وخياطة المشالح التي تصدرها لمختلف المناطق على مدى سنوات، وكان كثير من الزعماء يفضّلون البشت الحساوي، وقد اختصت عدة من الأسر الأحسائية بهذه المهنة، كعوائل: العمّار والمهدي والحرز والخرس والمحمد صالح والخواجه والرمضان والقطان ... إلخ، وعليه ففي العهد الأول للدولة السعودية بعد أن سيطر الإمام سعود بن عبدالعزيز على مكة المكرمة عام 1220هـ، واستطاع عزل الشريف غالب من إمارتها، ونتيجة للظروف المختلفة لتلك الفترة، أمر أن تُصنع الكسوة في الأحساء نظراً لشهرتهم في صناعة النسيج والمشالح، فكانت تُرسل الكسوة في السنوات التي حكمها الإمام سعود من الأحساء إلى مكة المكرّمة، حيث كان مكان صنعها في منزل/ عيسى بن شمس بمدينة المبرّز في شارع الحاكَة بحيّ المجابل، وكذلك في عهد الملك عبدالعزيز تشير المصادر إلى أن الكسوة تُرسل من الأحساء وذلك عام 1343هـ، بالإضافة إلى صناعة المداد من الخوص التي أرسلت كذلك من الأحساء.
ونظراً لاحتلال الأحساء هذا الدور الكبير والمهم في العناية بطريق الحاج الأحسائي، كانت هناك رسائل من الحكومة الفارسية في الفترة (907 - 1148هـ) لأمراء الأحساء والتي بلغت أحد عشر رسالة ذكرها الشيخ في كتابه هذا، موثقاً إياها، مع تعريجٍ لملامح الحركة العلمية للأحسائيين في الحجاز، كنسخ الكتب، وأخذ الإجازة، واستقطاب العلماء، واللقاء بكثير منهم، وغير ذلك من المسائل ذات الصلة في هذا الميدان، حيث جاء الباحث على ذكر ذلك كلّه موثقاً بالمصادر، وهذا ما جعل الكتاب كبيراً في حجمه، نظراً لحجم المعلومات المهمة في هذا الشأن، وليكون الكتاب شبه شاملٍ لكل ما يتعلق بطريق الحج الأحسائي، ولا شك أن عملاً بِكراً في هذا الميدان تقع فيه بعض الهِنات والتي لا تفقد البحث قيمته العلمية، ففي الأثناء التي كان يلتحق بعض حجاج البلدان المجاورة بالركب الأحسائي نتيجة للظروف الأمنية كما ذكر المؤلف الحرز، فإن هناك عملية عكسية فاتت المؤلف، وقد ذكرها صاحب كتاب (منائح الكرم في أخبار مكة والبيت وولاة الحرم) لعلي السنجاري (ت 1125هـ) 5/367 أنه في عام (1115هـ) كان عدد الحجاج قليلاً - ولم يوضح الأسباب - حيث التحق الحاج الأحسائي بالركب الشامي مع العجم، ويبدو أن ظروفاً أمنية جعلت نسبة عدد الحجاج قليلاً.
نسأل الله العلي القدير التوفيق والسداد للمؤلف الشيخ الحرز في بحوث أخرى، وفي طبعات لاحقة لهذا الكتاب المهم.
** **
- عبدالله بن علي الرستم