د. تنيضب الفايدي
هذه الساحات المباركة التي تحيط بها الجبال وتشكل ما يشبه العقد غير المكتمل، أو ما يشبه القوس، تشعر وأنت تشاهدها أن بينك وبينها علاقة قديمة، علاقة حب، علاقة ارتباط وثيق مثل ارتباط هذه الملايين من المسلمين بعضهم ببعض، وهذا جبل صغير يتوسطها.. إنه جبل عرفات، أو جبل الرحمة، يلتحم بالقلوب في يوم عرفة، ومع أن عرفات خارج حدود الحرم المكي الشريف إلا أنك تحس إحساساً عميقاً بأنك في مركز الكون، وأن كل صخرة أو رملة من صخور ورمال عرفات حرم مثل الكعبة المشرفة، كما تشعر بأن هذه الآلاف المؤلفة التي اجتمعت خاشعة خاضعة ملبية مسبحة تنشد الأمن والأمان والعفو والرحمة تشعر بأنها وحدة واحدة لا تنفصم، بل إنها جسم واحد يلتئم في كل عام في يوم واحد، أليس «الحج عرفة»؟.
ويوم عرفة تألق بالامس عظمةً، ويتفوق اقتداراً على سائر أيام الله، إنه موقف عظيم، ومجمع جليل لوفد الله في هذا اليوم المبارك، حيث يعتبر أعظم مجامع الدنيا، إنه مجمع خيار عباد الله، يوم مجامع الأفئدة في هذه الساحات المباركة، إنه استجابة الله سبحانه لدعاء نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام عندما يرفع قواعد البيت الحرام {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} (37) سورة إبراهيم. نعم إنه مجمع الأفئدة التي هوت أي: أسرعت إلى هذا الموقع المبارك شوقاً ووداداً وحباً، هنا تسكب العبرات، ترجو هذه الأفئدة الله سبحانه وتعالى إقالة العثرات، وعبرت عن هذا الرجاء العيون التي فاضت دمعاً اشتياقاً لخالقها، هذه القلوب الخاضعة الخاشعة لربها، وهذه الأنفس الآمنة المطمئنة المستقرة إنه يومها، يوم الصدق والطهر والنقاء، يوم صفاء القلوب، يوم بسط الأكف جميعاً إلى رب الأرض والسماء، إنه يوم تفتح فيه أبواب الرحمة، فمن أتى بفؤاده سيكون أسعد الناس ذكراً لربه، وأكثرهم خضوعاً لله سبحانه وتعالى، وأشدهم خشية له، وأهنأهم حياة، هنا في ساحة عرفات يجأر المسلمون بالدعاء تنفيذاً لأمر الله سبحانه وتعالى قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} سورة غافر الآية (60) وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} سورة البقرة الآية (186). وارتبط الدعاء بالقلب، بل ارتبطت شعائر الحج بالقلب، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} سورة الحج الآية (32)، وفي السياق ذاته قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} سورة الأنفال الآية (2).
إن الدعاء وفي هذا اليوم بالذات وفي ساحة عرفات، غيث للقلب، وسكون للنفس، وانشراح للصدر، وراحة للضمير، ومهما تحدثت الألسن، وكتبت الأقلام، وتفتحت القرائح فإنها لا تستطيع وصف هذا الموقف العظيم، هذا الموقف الذي يباهي الله جلت قدرته ملائكته، إنه يوم إعلان الشمس على الإيمان، بل إنه أفضل يوم طلعت عليه الشمس كما يقرر ذلك سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث تشرق شمسه في القلوب قبل إشراقها في السماء، ونسيم عرفات يسري في الأرواح قبل سريانه على الأرض، حيث إن اجتماع يوم عرفة اجتماع ثلة مختارة من أمة سيد البشر النبي الأمي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم كل عام، من لدن العهد النبوي المبارك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
إن الجبال التي تحتضن هذه الساحات المباركة شاهدةٌ على التقاء القلوب.