د.فوزية أبو خالد
أكمل في هذا المقال مرافعتي عن موقع كتابة الرأي والضمير في حياتنا الاجتماعية في علاقتها الجدلية بتحولات المجتمع السعودي تحديداً في هذا اللحظة التاريخية المفصلية وفي علاقتها مع الثورة التقنية المعاصرة.
وهنا تثور الأسئلة ويخطر على البال عدة أسباب لما نراه اليوم من تفريط كُتاب الرأي في دورهم التاريخي والطليعي معاً وفي مسؤوليتهم الجسيمة تجاه التعبير عن صوت المواطن (هذا دون أن يشمل تساؤلي هنا أولئك الذين انسحبوا بمحض إرادتهم بدافع شخصي في الانقلاب على مواقف نقدية سابقة إما لحسابات خاصة أو حيث أدركتهم حرفة غير حرفة الأدب والكتابة).
* * *
وفي محاولة طرح الأسئلة على حالة كتاب الرأي في اللحظة الحاضرة لن يحق لي لا بحكم تجربتي المعتقة في الكتابة ولا بحكم مرجعيتي كمتخصصة في علم الاجتماع إلى تحميل طرف واحد ولا عامل واحد مسؤولية أي حدث أو فعل أي كان وخاصة ما يتعلق بالمواقف والتحولات وحرية التعبير والحقوق العامة واتجاهات التفكير والسلوك سواء كان فردياً أو جمعياً. كما أزعم بهذا الصدد أنني أنأى برأيي عن تلك الآراء الأحادية التي تنحو باللائمة في تفسير كل شاردة وواردة تخص الواقع الاجتماعي إما على المجتمع وحده أو على فئة معينة وحدها أو.. أو.. «الصحوة» أو «حمى الضنك»..أو الخصوصية السعودية (كما كانت تسمى)... مثلما شاعت مقولات برنارد شو الساخرة أسأل «عن المرأة، اقبض على الشرطة.. إلى آخر تلك المقولات ولذا لا بد أن نسأل أو لا بد على الأقل من محاولة طرح الأسئلة أو البحث في تعدد الأسباب وتنوع العوامل التي تنتج نوعاً من فراغ المحتوى أو تنحو لتفريغ كتابة الرأي من الهموم الصغيرة والمشاغل الكبيرة إن لم تفرغ كتابة الرأي من الرأي. وهنا أجرب طرح عدد متنوع من الأسئلة التي لا تستغني عن الخيال الاجتماعي لقراءتها وتأملها والإضافة عليها أو الحذف منها مع حرية نقدها أو نقضها. وتتمثل في التالي:
1 - هل يعود امتناع أو انشغال وتشاغل الكُتاب عن الكتابة الناطقة بجنان المواطن أو المعبرة عن صوته والمتماهية معه حالياً لأن القيادة الرسمية اليوم نجحت في حل حزمة مما كان يعد مطالباً (عامة) مُلحة قبل أقل من نصف عقد، وتحديداً في مجال المطالب الاجتماعية التي كانت القاسم المشترك الأكبر بين الكثيرين من كتاب الرأي؟
2- هل أربكت مفاجأة «التلحلح» السريع لتلك المطالب التي ظلت عالقة لعقود سابقة إلى إرباك معتاد «كتابة الرأي المطلبية» بما أدى إلى نوع من «الاعتمادية الجديدة» في التواكل على السياسات الرسمية لتتدبر وحدها أمر الشأن العام برمته؟
3- هل يعود ذلك لأن كتابات الرأي تلك كانت تدور في فلك المطالب الاجتماعية، فشعر كتابها بأن القرارات الرسمية قد سحبت البساط منهم خاصة وقد أحدثت تلك القرارات تحولات في الفضاء الاجتماعي أشد وقعاً وأقوى تأثيراً واستجابة مجتمعية من جهادها السلمي لسنوات مع عتمة الحبر في نفس تلك الموضوعات؟
4- هل الملاحظ من تراجع أو خفوت صوت كتابات الرأي وتفريغ الكتابة من أي محتوى نقدي أو خلافي يعود للتردد أو التحفظ على الخوض في مجالات حيوية أخرى وإن كانت لا تقل أهمية عن الكتابة التنويرية في المجال الاجتماعي نظراً لضيق المجال أو محدودية الخبرة في تقديم كتابات رأي تُعنى بالتعبير عن الضمير العام في المجال الثقافي وفي صنع السياسيات
5- هل يعود الأمر لأن وسائل التواصل الاجتماعي قد أتاحت مفاتيح الكلام والكتابة لكل مواطن وحولت الحرية من محاذير جمعية إلى محاذير فردية غاية في الفردانية بكل ضراوتها بحيث إن ليس لكل فرد إلا أن يكون الناطق الرسمي الوحيد باسمه الحقيقي أو الوهمي وإن لم يخل الأمر من مسؤولية المساءلة؟
6- هل يعود أمر انسحاب الكُتاب عن تناول القضايا المجتمعية الملموس للمتابع، وإن كان الأمر يحتاج إلى فحص إحصائي، إلى ما يمكن أن يُسمى بوداع جماعي للدور التاريخي الذي لعبته الصحافة المحلية عندنا على وجه التحديد وفي العالم بأشكال أخرى مختلفة وبسقوف أعلى؟
وقد كانت الصحافة تضطلع تاريخياً بمجتمعنا بمسؤولية جسيمة وبدور يتراوح في الفعالية ولكنه دائماً موجود كمنصة ليس فقط لنقل الأخبار أو كمنبر إخباري رسمي ولكن كجسر بين المجتمع وبين الدولة والعكس صحيح، وبين القوى الاجتماعية في جدلها مع بعضها البعض بما جعل «مجازياً» من «زوايا الكُتاب والكاتبات» و»أعمدة الرأي» في صحافتنا «حالة برلمانية» ما أمكن، للتعبير عن نبض الشارع ولإسماع صوت المواطن الذي لا صوت له ولنقل ما يعتمل في الصدور من أحاسيس، وما يدور في العقول من أفكار وأسئلة وما يشغل الرأي العام من قضايا وإشكاليات، بما فيها من بث وشكوى وبما فيها أيضاً من تعبير عن الانتماء والولاء.
7- هل نحن أمام تشكل شكل جديد من العلاقة بين المجتمع والدولة يُستغنى فيها عن ذلك الدور الذي كان يحاول فيه الكاتب أن يمثل الضمير العام في العلاقة بين المواطن وبين ممثلي السياسات الرسمية، بين المجتمع وبين الدولة؟
8- هل ظهور منافذ إلكترونية بمختلف منصاتها.. يوتيوب، بود كاست , مدونات..الخ وبأُطر صحفية، ثقافية، بحثية، أدبية متعددة مع ميل بعضها إلى الجدية والحرية في طرح الكتابة سيمتلك القدرة والخبرة مع الوقت لرد الاعتبار لكتابة رأي لا تضطر لقول الكثير من الكلام الفضفاض لتقول كلمة محكمة واحدة؟
* * *
هذه أسئلة تحتاج من وجهة نظري إلى قراءة موضوعية من قبل أهل الرأي ومن قبل الأكاديميين ومن قبل قوى الرأي الأخرى وواضعي السياسات وبمشاركة عينات واسعة من كافة مكونات المجتمع والشارع السعودي على تآلفها واختلافاتها (الجغرافية والتعليمية والثقافية الخ..). مع العلم والتأكيد أن هذا الطرح هنا لا يقال في معرض الدفاع عن الصحافة الورقية أو الإلكترونية والمقارنات غير الدقيقة بينهما ولا يقال في وارد السجال الدائر حول الموضوع بل أطرحه على وجه الخصوص لأهمية البحث عن غياب كتابة الرأي تحديداً وتراجع الخوض في هموم ومشاغل المواطن والوطن الصغرى والكبرى، سواء كانت أوعيته صحافة أو مخازن فكر أو مقاهي أو مكتبات أو منتديات ثقافية الخ..في العالم الافتراضي أو على أرض الواقع. وإن كان الطرح هنا قد أنصب على مثال كتابات الرأي في الصحافة المحلية بحكم دورها التاريخي الحيوي في هذا المجال على نسبيته. بما تؤكده التجربة المعاشة والمتابعة الراصدة عن قرب كما زادته مصداقية عدة دراسات معمقة قدمت على شكل رسائل علمية بقسم الدراسات الاجتماعية بجامعة الملك سعود مما أستطاع توثيق وتحليل الدور التنويري المتبادل بين الصحافة السعودية وبين كتابات الرأي على سجالية كانت تضيق به أو تضيق عليه أحياناً.
* * *
وفي ضوء ما تقدم يبقى الأمل معقوداً على عدد من دراسات قائمة ودراسات في طور العمل داخل عدد من مؤسسات الأكاديمية والبحث ومراكز الفكر (التي ما زلنا نحتاج الكثير منها) لبحث وتحليل مثل هذا الموضوع الشائك وسواه من مواضع الحاضر والمستقبل المتعلقة بأسئلة الاستقرار والتحول نحو نهضة وطن.
ولا أستطيع أن انتقل الأسبوع المقبل إلى التوصيات التي تفضل باقتراحها عدداً من الزميلات والزملاء المختصين بالشأن العام في إطار منتدى آصرة الثقافي التي صاغتها مشكورة أ. فايزة العجروش إلا أن أختم حلقة اليوم الثانية من المقال بهذا التساؤل المحدد:
9- كيف نحافظ على شمعة كتابات الرأي في الكتابة عن الشأن العام وفي التعبير عن الشجن والضمير وحب البلاد وهسهسة الأسئلة ووجيب القلق وأطياف الأمل ونشوة الإنجاز ووعود المستقبل وعن التعالق المشيمي النبيل بين الوطن والمواطن في مواجهة تحدياتنا التنموية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً على مستوى الداخل وفي التصدي للتحديات الخارجية المحدقة؟
ولعلنا نتذكر في هذا السياق شطر قصيدة رشيدة من قصائد أبو الطيب المتنبي الثرية طيب الله ثراه..
الرأي قبل شجاعة الشجعان..