الهادي التليلي
إذا ما اتصل عليك أحد الأصدقاء المعروف برصانته وبدأ يحدثك بلهجة فيها الكثير من الوثوق فاتحاً «سبيكر» جواله عارضاً عليك صفقة بملايين الملايين وهو يعلم جيداً أنك لا ملاءة مالية لك بل لا دراية أو معرفة لديك بموضوع الصفقة بل لا حتى اهتمام بهذا النوع من الصفقات أو التجارة فاعلم أن كورونا ما زالت جاثمة على أنفاس العالم وأن محادثك الذي هاتفك لم يكن مخطئاً في اتصاله وإنما هي إحدى الآثار النفسية لكورونا حيث انحسار حركة الإنسان في الجغرافيا وتعطل حركته بحكم الحجر الصحي يعوضها. وهنا نتحدث عن مفهوم مركزي في علم النفس الاجتماعي compensation وفي الحقيقة مرجعيته إلى علم النفس التحليلي مع فرويد في كتابه تفسير الأحلام عندما قال في قاعدته الشهيرة ما لا يتحقق في اليقظة يتحقق في المنام فالإنسان الذي كبلت حركته كورونا والحجر الصحي المترتب عنها يعيش كماً هائلاً من القلق يجعله في حاجة إلى التعويض فيتحرك في جغرافيا اللغة ويعوض ما عطلته عوائق الحركة نتيجة القلق السائد وتنفيساً عن الاختناق النفسي وهرباً من الاكتئاب فتراه يصنع فيلماً هو مخرجه وممثله وإنتاجه في شراكة بينه وبين آثار كورونا فتكثر ظاهرة يعبر عنها بالعامية الجميلة «الكشخة» أي التجمل الذي قد يصل إلى الكذب الموهم بالواقع.
علم النفس ومدارسه المتعددة من الإكلينيكي والسلوكي والتحليلي والنيو فرويدي ومنها الطبية علم النفس الاجتماعي وعلم نفس العمل وعلم نفس الجريمة وقبل كل ذلك الأنتروبولوجيا التي تدرس المجتمعات وغيرها وتدرس في مجملها الظاهرة الجمعية وتغيراتها هذه التناولات وغيرها المتشظية عنها كلها تجتمع في مشترك ألا وهو الجانب العلاجي حتى الاستقصائي منه الذي ينتمي لمجال علم الاجتماع. هذه التناولات للإنسان مفرداً أو جماعة تتأثر بشكل لافت بالأزمات ولحظات الطفرة ونعني بذلك المعطى الزمني والتاريخي وما يشهد العالم والبشرية من تغيرات ففي فترة ما بين الحربين انتشرت ظاهرة التشاؤم والنظرة للعالم نظرة اليائس وهو ما انعكس على مجالات الفنون فظهرت عدة مجالات فنية منها الدادائية والسوريالية وغيرهما كما كانت لحظات انتشار أوبئة مثل الطاعون والجذام والجدري لحظات منتجة لأمراض نفسية تمس الفرد والمجتمع مثل الجريمة واليأس والانتحار.
ومع كورونا اشتغلت آلة الجيش الأبيض في معركة البشرية ضد الفيروس التاجي بموجاته المتتالية والدول اجتهدت في علاج الآثار الاقتصادية والاجتماعية لها وفي نفس الوقت تحركت جيوش علماء الاجتماع والنفس لاستقصاء الآثار الاجتماعية والنفسية لكورونا والبروتوكولات الصحية المنجرة عنها في الحقيقة جهود علماء النفس تعد أساسية ويعد دورها في المعركة أشد قيمة لأنها تحارب جنود وأمراض ومخلفات كورونا في المستقبل التي تؤثر على آتي البشرية.
وخارج مدار البحث الأكاديمي وبالتفحص في أدبيات المراحل والذروات التي مرت بها البشرية نجد أفلاماً وأدبيات ومؤلفات فلسفية في الغرض كان للحجر الصحي ربما فضل فيها نتيجة الكم العالي المنسوب من القلق هذا القلق الذي هو بدوره نتيجة أساسية لابتعاد الإنسان عن العمل حيث يعده فولتير أول مثلث نتائج البعد عن العمل الأساسية عندما يقول «العمل يبعد عنا ثلاثة آفات القلق والحاجة والرذيلة».
وفي مدار البحث الأكاديمي يستوقفني ملف أعدته صحيفة العلوم الاجتماعية التي تصدرها إحدى جامعات الجزائر وخصصته للقلق في زمن كورونا ولعل اللافت أكثر للانتباه المشروع الذي أنجزه الباحثان المصريان محمد جلال حسين ومروة صابر عبدالسلام ويتمثل في إنجاز تصميم مقياس للقلق المتعلق بكورونا والآثار الناجمة عنه وهو عبارة عن قالب بحثي يستجيب لقواعد علم الاجتماع الطبي والأنتروبولوجيا الطبية يمكن تطبيقه على أي شريحة لمعرفة كم القلق والآثار الناتجة عنه. الدراسة التي بالرغم من أن عينتها البحثية دولة بعينها إلا أن استنادها على مرجعيات عميقة مثل مقياس سبيلبرجر وزملائه The stat -trait anxiety inventory (STAI) الذي يتوزع على قسمين الأول قياس حالة القلق ويتكون من عشرين سؤالاً والثاني سمة القلق ويتكون كذلك من عشرين سؤالاً وصممت الإجابات على أربع خيارات مطلقاً وأحياناً وغالباً ودائماً والمقياس الثاني هو مقياس بيك للاكتئاب والقلق المعروف باسم باي Beck anxiety inventory (BAI) ويتكون من 21 مجموعة متوزعة على أربع فقرات وبإجابات النفي التام: لم تزعجني كثيراً وبشكل معتدل وأحياناً وأزعجني كثيراً. وأما المقياس الثالث للقلق فهو مقياس جانيت تايلور Taylor manifest anxiety scales المتكون من خمسين سؤالاً عن القلق من بينها 10 أسئلة عكسية وتكون الإجابات بنعم أو لا يجعل من تطبيقها على أي شريحة ممكنة أمراً منطقياً.
في الواقع على قيمة التصميم الذي انبنى على آلية الأسئلة والأجوبة الذي حرص على إيجاد قالب وتصميم يستجيب للبيئة مرجع نظر البحث إلا أنني لا أرتاح كثيراً لنتيجة الأجوبة ومدى جدية أو صدقية العينات التي يتم سؤالها بل مدى ترجمتها فعلياً للضمير الجمعي في بحث كهذا لنحصل على نتائج يمكن الاستئناس بها في الظواهر الاجتماعية بل نرى علم النفس قد ينطق في جانب من الجوانب بما يسكت عنه علم الاجتماع وفروعه التي تشهد تقاطعات وتزاوجات بينهما لتولد علوم ومناهج بحث جديدة.
الجدير بالملاحظة أن الآثار النفسية والاجتماعية لكورونا يمكن أن تكون أخطر حتى من كورونا فحالات العزل القسري الذي عانت منه الكرة الأرضية ولحظات اليأس وفقد الأمل التي عاشتها شعوب مثل الهند وإيطاليا وإسبانيا ويوهان وغيرها والآثار النفسية والجسدية للذين أصيبوا بكورونا وتعافوا منها والآثار النفسية لكل العالم الذي عانى من الحجر ومن الإنفوميديا التي مارستها كل وسائل الإعلام العالمية والمحلية على البشرية من مشاهد مؤلمة وقاسية يشاهدها الكبار والصغار عن الجائحة والمشاهد التي رآها ويراها الكادر الطبي لزملائهم وهم يفارقون الحياة من أجل البشرية وغيرها كلها فيروسات من نوع آخر ستنهش مستقبل البشرية التي تحتاج إلى أجيال وأجيال كي تتعافى.
فالأمراض الاجتماعية التي تفاقمت مع كورونا نتيجة الحجر الصحي مثل تورم الأنا وانتشار ظاهرتي التجمل والكذب زد على ذلك التشنج والضغط النفسي كلها دواعٍ على مهندسي المستقبل وعلومه في المجالات العلاجية وغيرها تناولها تناول الجد لأن كورونا غير المأسوف عليها قد لا تعود بحكم الجهود وتقدم تناول اللقاحات ولكن تحتاج البشرية إلى لقاحات وخطط أخرى لما بعد كورونا يكون فيها لجنود السياحة والترفيه الدور الكبير فعندما يسافر الواحد في الجغرافيا ويعوض كبت حركته بما يفرغ حاجته إلى المبالغة وتورم الذات والاكتئاب والقلق يستعيد حالته السوية لأن الترفيه مضاد حيوي فعال لكل هذه الآفات.