أ.د.عثمان بن صالح العامر
لم يترك الله عزَّ وجل أمر مركزية الكون لخلقه، بل تولاها سبحانه وتعالى بنفسه، وأمر عبده سيدنا إبراهيم عليه السلام أن ينتقل بعائلته إلى المكان الذي حدده الرب ليكون مركز الكون، واصفاً إياه سبحانه وتعالى بأنه وادٍ (غير ذي زرع)، لتكون الانطلاقة الحقيقية للمركزية العالمية إلى قيام الساعة من هذا المكان الذي لم تكن فيه حياة، مكان غير معروف المعالم ولا الأحداث والمعارف. وما هي إلا سنوات معدودة وإذ بالنداء الإبراهيمي الخالد (وأذن في الناس بالحج) يبلغ من في الأصلاب، فيتوافد بني آدم إلى هذا المركز بعد أن رفع أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل (القواعد من البيت). والمعجزة الخالدة، زمزمات هاجر أم إسماعيل عليه السلام، (ماء زمزم) الذي هو رمز الحياة لكل شيء وفي كل شيء، يظل من براهين المركزية الربانية وديمومة النقاء والخلاص من كل درن ووثن، يبقى شاهداً على قرب فرج الرب لكل سائل محتاج يلوذ برب العباد، ويطرق بابه ويلتجئ إليه. يتجدد هذا الطيف في كل حركات المسلم وسكناته حين يفد البيت العتيق بمكة المكرمة.
وفي ذات الوقت يعود به التاريخ ليرى ملامح الأحداث الجادة في محاولتها المستميتة نقل مركزية مكة كلها أمام ناظريه.
- أبرهة الحبشي الذي أراد أن يحج العرب لليمن، جاهلاً أو ناسياً أن (للبيت رباً يحميه)، أراد بفعله المشين صرف الناس عن مركزية مكة، وإذ بالطير الأبابيل له ولفيلته وجيشه بالمرصاد.
- أبو طاهر القرمطي حاكم دولة القرامطة هو الآخر أراد نقل المركزية الربانية إلى الأحساء، فغزا مكة المكرمة يوم التروية وقتل ما يقارب ثلاثين ألف مسلم، ما بين حاج وراكع وساجد في ساحة الكعبة المشرفة، ثم اقتلع الحجر الأسود ونقله إلى قرية الجش بالأحساء، بعد أن بنى بيتاً كبيراً هناك وأمر الناس أن يحجوا له فامتنعوا عن ذلك مما أدى به إلى قتلهم.
- مركزية مكة ليست فقط مادية بل هي في الأساس روحية، فجميع أفئدة المسلمين في شرق الأرض وغربها، شمالها وجنوبها تهوى للبيت العتيق، وتتمنى وتتوق الوصول إليه، وتتوجه له في صلاتها خمس مرات في اليوم.
- هناك مركزيات بشرية فرضتها الدول الاستعمارية بالقوة على البلاد التي استعمرتها ردحاً من الزمن، فكانت (المركزية الأوروبية إبان ما يسمى بالاستعمار) مقابل دول الأطراف، حتى صار العالم (شرقاً متخلفاً) ينعت (بالعالم الثالث)، و(غرباً متحضراً ومزدهراً) هو العالم الأول، وصارت المسافات بين المدن والبلدان تقاس بالبعد أو القرب عن عاصمة الدول الأوربية المستعمرة، وأضحت اللغة الأم في البلاد المستعمرة (لغة الدولة المستعمرة)، وصار التمدن والحضارة والتقدم سواء على مستوى الدول أو الأفراد يقاس بمدى القرب أو البعد من النمط الغربي والسلوك الأوروبي، وكان التوقيت العالمي (جرنتش) حين كانت بريطانيا (الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس)، ولكن سرعان ما أفلت وبادت تلك المركزية البشرية المحدودة، فأمست أثراً بعد عين.
- واليوم تنازع المركزية الأرضية التي حددها الرب سبحانه، وخصها بخصائص باقية إلى قيام الساعة، قوى أخرى بشرية، وستكون كما كان غيرها يوماً ما (أثراً بعد عين) وهذه ليست مجرد تخرصات وتخمينات بشرية بل سنة باقية من سنن الله في أرضه.
- وتبقى المركزية الربانية لمكة التي نشرف نحن السعوديين قاطبة بأننا من خدامها، كما قال ذلك وأكد عليه في أكثر من مناسبة مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وكما اعتبرها سيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد الأمين أقوى مرتكز ترتكز عليه رؤية المملكة 2030، فهنيئاً لنا بهذا الشرف العظيم، حفظ الله بلادي وأدام ولاة أمري وأعاد عليهم العيد وهم يرفلون بثوب الصحة والسعادة والمجد والفخار، وكل عام وأنتم ومن تحبون بخير وعلى خير، كل عام ووطن العز والفخر (مركز العالم) المملكة العربية السعودية، بأمن وأمان، ودمت عزيزاً يا وطني، وإلى لقاء، والسلام.