اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
رغم أن العرب اشتهروا بين الأمم الأخرى بالحديث عن الذكريات والمبالغات وإظهار الحماس عند إلقاء الخطابات، إلا أن الهدف من ذلك لا يعني تغيير الحقائق وتزوير الوثائق والقول غير اللائق، وإنما يكون الهدف هو زيادة في توضيح الصدق والدعوة إليه وتأكيد قيمة المصداقية على نحوٍ يزيد من فاعلية الكلمة وتأثيرها في مَنْ يستمع إليها مع الربط بين القول والعمل، بعيداً عن الكذب والتدليس والتلبيس وقد قال الشاعر:
والمرء ليس بصادق في قوله
حتى يؤيد قوله بفعاله
والمبالغات والاعتداد بالماضي وذكرياته من الأمور التي أبدع فيها العرب الأوائل، متخذين من ذلك دافعاً يدفعهم إلى الأمام، وحافزاً يحفزهم على طريق النجاح مع تقييد المبالغة بقيودها وعدم خروجها عن حدودها، بفضل التحكم في مضمونها واتقان فنونها، وقد نزل القرآن الكريم باللغة العربية تحدياً للعرب واعجازاً لهم، لأن ذلك من جنس ما نبغوا فيه وتميزت به اللغة العربية عن غيرها من اللغات، ولكن ابتعاد العرب عن دينهم وتقليد غيرهم همّشَ فكرهم وشوّه ثقافتهم وانحرف بلغتهم عن المسار الصحيح والمنطق الفصيح إلى قول كل ما هو قبيح.
ولسان المقال وواقع الحال بالنسبة للأمة العربية لا يحتمل انتقاد الذات وجلدها رغم التداخل بين النقد والانتقاد في هذا الزمن الرديء الذي أصبح من الصعب التمييز فيه بين الأمرين بسبب الواقع المؤلم الذي تعيشه الأمة العربية، وحالة التردي التي وصلت إليها نتيجة للمكابرة وخداع النفس والهروب من الواقع وغيرها من الممارسات التي نجم عنها الانتقال من فشل إلى آخر، حتى صارت الأمة مضغة على الألسن ومحلاً لتندر الأمم الأخرى.
وحالات الفشل الذريع التي حلت بالأمة والهزائم التي توالت عليها في العصر الحديث لم تكن كلها نتيجة طبيعية لعوامل ضعف حقيقية وأسباب خارجة عن الإرادة، بل معظمها يعود إلى أسباب غير مبررة وممارسات منكرة من قبل البعض الذين أُبتليت بهم الأمة المغلوبة على أمرها في الوقت الذي تكالبت عليها الخطوب وضاقت أمامها الدروب.
وهؤلاء البعض بقدر ما صاروا وبالاً وشراً على أبناء جلدتهم وقوميتهم، بقدر ما كانوا برداً وسلاماً على الأعداء لأنهم يقولون ما لا يفعلون غير مدركين أن القول في غياب الفعل وعدم ضبطه بميزان العقل وتجنّي الفرع على الأصل، كل ذلك تكون محصلته التغيير في حقيقة الأمر والحط من القدر والتعريض للخطر، وما يؤول إليه هذا الوضع من مآلات مؤلمة، وينتهي إليه من نهايات مهلكة.
والانحراف بالمبالغات والخطابات عن المسار المرسوم والاتجاه المعلوم إلى السلوك المرفوض والأسلوب المبغوض خيّم على المشهد في هذا الزمن الرديء، كما ظهر بوضوح في زمن الصراع العربي الإسرائيلي من قبل المتاجرين بالقضية الفلسطينية والمتآمرين عليها من القيادات الفلسطينية التي تدار من الخارج، وبعض النظم العربية ذات المصالح الشخصية والتطلعات القومية، فالأولى تتزيا بزي الثورة المزيفة، والثانية تتدثر بدثار القومية المغلف بغلاف بعثي، بالإضافة إلى دعاة الطائفية والمذهبية والإسلام المسيّس، خاصة أولئك الذين اعتادوا على التهديد والوعيد والمزاعم المكذوبة ورفع الشعارات وإطلاق المزايدات التي ترتد عليهم بالهزائم والشرور والويل والثبور.
وأصحاب الأهواء ودعاة الاغواء من جميع الأطراف هم الذين يعود إليهم السبب في هزائم العار المتعاقبة والانشغال بمزاعم الانتصار الكاذبة من خلال الحديث عن مصطلحات ذات طابع ثوري وسمة قومية مع العزف على المبادئ الدينية والقيم والمثل المرعية، وهم أبعد ما يكونون عنها جاعلين شغلهم الشاغل تمجيد الذات وتجاهل خطورة الخصم الذي يتجرعون بسببه مرارة الهزيمة، ومرد ذلك يرجع إلى غياب الحكمة وعدم احترام الكلمة وطغيان الأقوال على الأفعال، دون أن يأخذوا في حسبانهم أن زيادة القول على الفعل غير مقبولة، فكيف بالقول الذي يتناقض مع الفعل ويتعارض مع طبيعة العقل، وقد قال الشاعر:
زيادة القول تحكي النقص في العمل
ومنطق المرء قد يهديه للزلل
وقال آخر:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم
مذق اللسان يقول ما لا يفعل
وهؤلاء القوم الذين يعتلون المنصات الرسمية والمنابر الخطابية سواء من النظم العربية المتخاذلة أو القيادات الفلسطينية الفاشلة والأحزاب والميليشيات الطائفية والمذهبية ذات المستويات السافلة، وكل من يأتمر بأمرهم، أو يدور في فلكهم دأبوا على تهديد العدو، وهو تهديد يفتقرون إلى أدواته، وتنقصهم مؤهلاته، الأمر الذي يوفر للعدو مبررات العدوان، ويفسح المجال أمامه للاستعانة بقوى الشر والطغيان، ويجلب له التعاطف من قبل الكثير من الشعوب والبلدان.
والقضية الفلسطينية تعد ضحية من ضحايا الإعلام والمتاجرة بالكلام، حيث إن الدولة العبرية عند إنشائها وقبل اكتمال عوامل قوتها، وما تعانيه بسبب طبيعة موقعها الذي يحيط به العرب من كل اتجاه، استغلت بعض ما تردد من أقوال طائشة تنادي بإبادة إسرائيل وإزالتها من الوجود والرمي بها في البحر، متخذة من ذلك مادة إعلامية ووسيلة دعائية، تسلط الضوء من خلالها على عدوانية العرب، وما يبيتونه ضدها، واصفة إياهم بما تصف به النازية، وقد فعلت الدعاية مفعولها، ولعبت دورها في تضخيم المقولة والترويج لها في الإعلام الغربي الذي تفاعل معها بالشكل الذي زاد معه صداها واتسع مداها، مما أدى إلى استفادة الدولة العبرية وحصولها على قدر من التعاطف غير المسبوق على الصعيد الخارجي.
ومن الغريب والأمر المريب أن ما قيل بشأن رمي إسرائيل في البحر أتى بمثابة ذريعة لشن حرب النكسة عام 67، حيث استغلت إسرائيل الموقف وبدأت الحرب التي أدت إلى ما أدت إليه من نتائج يندى لها الجبين والحديث عنها فيه جلد للذات ونكاية للجراح، ولكن الواقع يشي بما قاله عمر بن الحارث، أحد أشراف العرب: كنت متى شئت أجد من يعد وينجز، فقد أعياني من يعد ولا ينجز ويقول ولا يفعل، وقال: كانوا يفعلون ولا يقولون فصاروا يقولون ويفعلون ثم صاروا يقولون ولا يفعلون.