عبدالوهاب الفايز
هل نحتاج الفحص النفسي والاجتماعي والأمني الإجباري في أمور حيوية مثل الزواج، (وحتى اشتراطه في متطلبات إصدار رخصة قيادة المركبات، وأيضاً الدخول في الوظيفة؟).
طبعاً هذه أمور حيوية وحساسة اجتماعياً ولها محاذيرها الأخلاقية والمهنية، ولا يمكن للحكومات الدخول فيها والتوسع في تطبيقها بكل سهولة وبدون ألم، وأتذكر الآن الجهود المضنية التي بُذلت في منتصف التسعينيات الميلادية الماضية لإقرار الفحص قبل الزواج لمواجهة انتشار الأمراض الوراثية. لقد استمرت الجهود لعدة سنوات لاشتراط الفحص عن الأمراض الوراثية قبل الزواج. وهذا المشروع، بفضل الله، كان له الأثر الإيجابي على تقليل انتشار الأمراض الوراثية.
ربما نحتاج التوسع في الفحص ليشمل (اللياقة النفسية والاجتماعية)، ولهذا مبرراته الإنسانية والاجتماعية والطبية. حياتنا المعاصرة فرضت تحديات جديدة، والمجتمع السعودي، مثل أغلب المجتمعات العربية، طرأت عليه حالات وظواهر جديدة غيرت طبيعة وتركيبة العلاقات الاجتماعية والإنسانية، حيث بدأنا نرى مؤشرات مقلقة مثل ارتفاع معدلات الطلاق، وبروز ظواهر العنف بين الزوجين، والعنف مع الأطفال.
تبرز الآن الضغوط التي تفرزها وسائط التواصل الاجتماعي وما تنتجه من مضامين ورسائل متضاربة ومشوشة للمدركات والقيم النفسية والاجتماعية، ولا نستثني التأثيرات الناتجة عن اختلاف التركيبة السكانية، وتبدل طبيعة الحياة الحضرية في المدن الكبرى مع استمرار الانتقال من الأرياف. والأخطر من كل هذه توسع تعرض الأجيال الجديدة للمحرمات والمؤثرات النفسية والعقلية بالذات المخدرات.
هذه المتغيرات العديدة أوجدت (حالة عدم الاستواء النفسي)، وهذه الحالة لا يمكن أن يسلم منها الأغلبية من الناس، ونحن في السابق كنا نتعامل معها ونستوعب مخاطرها عبر المرشحات والمصدات الدينية والأخلاقية وعبر التعلم من تجارب الحياة.
الآن الأجيال الجديدة وضعتها ظروف المدنية المعاصرة وحياة المدن الكبرى والتنافس الاقتصادي والاجتماعي وعبور المؤثرات الثقافية العابرة للحدود الوطنية، أمام تحديات لم تعهدها الأجيال السابقة، وهذا هو المبرر الموضوعي للخوف على وضع الأسرة السعودية، فهي المتضرر الأكبر من هذه التطورات. بالنسبة لنا تشكل الأسرة ضرورة اجتماعية وإنسانية وأمنية، والمسار السليم لتكوين أسرة مستقرة منتجة للاستقرار الاجتماعي وحاضنة نفسية هو في الاهتمام بالأوضاع التي تؤدي إلى قيام أسرة مستقرة.
وأحد الآليات التي تساعدنا على الحفاظ على الأسرة السعودية هو التوجه إلى إلزامية فحص اللياقة النفسية والاجتماعية قبل الزواج، فهذه ضرورة لها مبرراتها الموضوعية، وهناك مؤشرات وحقائق على واقعية تدعم أهميتها. من الأمور الداعمة، النتائج التي توصل اليها المسح الوطني السعودي للصحة النفسية وضغوط الحياة المسببة لها الذي أجراه مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة. توصل المسح إلى أن الشباب يمثلون 40 % من إجمالي المصابين بالاضطرابات والأمراض النفسية في المملكة، وأن 95 % من الذين أصيبوا بأمراض نفسية لم يتلقوا العلاج.
أوضح أيضاً أمراً مهماً يدعم الفحص النفسي قبل الزواج وهو أن (اضطراب قلق الانفصال) يتصدر الـ (16) اضطراباً نفسياً عند النساء بنسبة 13 %، والرجال بنسبة 11 %. والخوف من الانفصال يترتب عليه معاناة الأفراد المرتبطين بهم كأحد الوالدين أو الزوجين. وكانت المفارقة في النتائج أن المواطنين الأكثر تعليماً هم الأكثر عرضة للإصابة بالأمراض النفسية!.
وأجزم أن المختصين لديهم مبررات أهم وأعمق مما ذكرت وأتوقع هناك أبحاث ودراسات حول الآثار السلبية التي تترتب على عدم الاهتمام بهذا الموضوع. واجب هؤلاء المبادرة إلى إثراء الحوار والنقاش حول هذا الجانب لبناء القناعة الوطنية بضرورة هذا الفحص. طبعاً هناك تحديات لبناء الآليات المناسبة. أهم التحديات استخدام النموذج الأمثل للفحص والاختبار. في تصوري لن نحتاج إعادة اختراع العجلة، فيمكن الاستفادة من الاختبارات المشهورة عالمياً في مجال التهيئة والعلاج الزواجي، وتطوير هذه الآليات لكي تتماشى مع ظروف ومتطلبات المجتمع السعودي، والحمد لله أن لدينا خبرات وطنية متميزة في مجال العلاج والإرشاد النفسي والاجتماعي.
أيضاً هناك تحدي الاستجابة الاجتماعية والقبول للفحص النفسي. هنا نشير مرة أخرى للانطباع الإيجابي الذي خرج به فريق المسح الوطني الذي سبقت الإشارة إليه عن تفاعل الناس مع فريق المسح، فالتفاعل والترحيب الذي وجده الفريق، رغم اتضاح هدفه الأساسي للناس وهو البحث والتقصي للأمراض والاضطرابات النفسية، فهذا التفاعل (كسر الصور النمطية) عن المجتمع السعودي الذي يصور أنه ممانع ومتحفظ في الأمور النفسية والاجتماعية.
أيضا هناك تحدي الموارد البشرية المتخصصة. المختصون في مرافق الصحة النفسية والعيادات النفسية الخاصة حسب (المعدل لكل 100.000 نسمة) ما زال ضعيفاً، فالأطباء النفسيون نسبتهم بحدود 2 بالمئة، والممرضون بحدود 11 بالمئة، والعلماء أقل من 1 بالمئة، أما الاختصاصيون الاجتماعيون فنسبتهم بحدود 3 بالمئة. طبعاً هذه أرقام متواضعة مع الأسف، وهذه من إخفاقات القطاع الصحي الذي نجح في جوانب عديدة وفشل العلاج والإرشاد النفسي!.
هذه تحديات رئيسية ولكن يمكن تجاوزها إذا قدرنا حجم المخاطر التي تهدد الاسرة السعودية الآن ومستقبلاً.