خالد محمد الدوس
الموت أو الضيف الأخير (الزائر) الذي يأتي بلا استئذان يذوقه كل إنسان قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (57) سورة العنكبوت، فالموت كأس لابد من شربه وإن طال بالعبد المدى وعمّر سنيناً.!! فهو هادم اللذات، ومفرق الجماعات، ومشتت القرابات وميتم البنين والبنات، قال الله تعالى: {فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} (106) سورة المائدة، فلا عجب أن الموت هو الحقيقة التي تقف أمامها البشرية عامة عاجزة عن الهروب منه, كما يقول تعالى {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} (78) سورة النساء.
الخلائق جميعاً ما هي إلا ودائع وأمانات في هذه الدنيا الفانية فمتى ما انتهى أجلها أعيدت انطلاقاً من قوله تعالى: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (34) سورة الأعراف.
في يوم السبت الموافق 21-12-1442 تلقيت نبأ وفاة الشيخ والمربي الفاضل محمد بن عبد الله بن سليمان بعد معاناته مع المرض عن عمر يناهز 74 عاماً، والفقيد -غفر الله له- تخرج من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قسم علوم القرآن قبل أكثر من ثلاثة عقود زمنية فخدم المجال التعليمي والتربوي والدعوي سنوات طويلة. كان صاحب خلق رفيع وابتسامة دائمة واستقامة في القيم التربوية الأصيلة والشيم الفضيلة.. أكسبت شخصيته المتزنة وروحه الاجتماعية العالية حُب جميع الأقارب والأحباب وكل من عرفه عن قرب.. لنُبل تعامله وإحساسه الإنساني المرهف وطيبة قلبه وسلامة سريرته وبشاشته العفوية التي دخل بها قلوب الأحباب والأصحاب بلا استئذان..! لأنه كان يؤمن بمبدأ (ليس من الحكمة صناعة الأعداء) وكان بقيمه الأصيلة يتجاهل.. ويسامح.. ويتنازل.. ويبتسم من أجل حبل المودة حتى مع أولئك الذين اختلف معهم في وجهات النظر..!! عاش فقيدنا الغالي (أبا عبد الله) في أسرة معروفة بعمق تاريخها الأصيل في المجتمع النجدي ومن الأهالي المعروفة التي شاركت في خدمة الوطن. فكانت أسرة (آل سليمان) من عوائل نجد المعروفة بولائها للوطن وحكامه.. ورغم المكانة الاجتماعية والتعليمية لم تزده إلا خلقاً وتواضعاً ونبلاً ورقياً في التعامل مع الصغير والكبير.
عُرِف عنه -رحمه الله- حُب الكرم والجود والتصّدق سراً ولا غرابة من ذلك، فصفة الكرم قرين كثير من الصفات الشخصية الطيبة.. فهو قرين الحلم والصبر والإيثار والمروءة والإحسان للناس، ولذلك كان شيخنا (أبا عبد الله) من أهل الكرم والإحسان وحب الإنفاق في أوجه الخير.
كما اتصف -رحمه الله- بحسن الخلق لأنه كان يؤمن أن الأخلاق الحسنة والقيم الفاضلة لها مكانة عظيمة في الإسلام، ولا يصح الإيمان، بدونها يقول الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام: (إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً)، ومكارم الأخلاق -لاريب- أثقل شيء في ميزان يوم القيامة.
عُرِف عن شيخنا الراحل عفة اللسان وحسن الصمت.. والصمت نصف الحكمة كما قيل.. حتى في المجالس كان يكره الغيبة والنميمة والخوض في أعراض عباد الله.. وكما يقول أحد السلف الصالح لو كانت للغيبة رائحة لما جلس أحدهم في مجلس تذكر فيه الغيبة..!! هكذا كانت تنشئته التربوية والأخلاقية والاجتماعية في سياقها الديني.. تنشئة شكلت شخصية تنفرد بعدة خصائص في التواضع والابتسامة والكرم واحترام الصغير قبل الكبير والصمت والإيثار وإنزال الناس منازلهم وحسن الخلق وصفاء السريرة ونقاوة القلب، ومراقبة الله في السر والعلانية.
ما أروعها من قيم فضيلة، وشيم نبيلة التي كانت متأصلة في شخصية فقيدنا الغالي وشكلت مدرسة تربوية في كثير من الخصال الحميدة والأعمال الصالحة..
في مرضه الذي بدأ معه في شهر رمضان الماضي ضرب -رحمه الله- أروع معاني الصبر والاحتساب في معاناته المرضية فكان يردد ويذكر فضل الله سبحانه عليه حامداً وشاكراً لخالقه العظيم، وبعد تردي أوضاعه الصحية في ظل معاناته المرضية لم يشتك بل كان يشكو بثه وحزنه إلى الله عز وجل، حتى ومع اشتداد مرضه كان يسأل عن الصلاة.. فكان بالفعل يؤمن بأن الإيمان (نصفان) نصف شكر والنصف الآخر صبر.. ولعل ثباته وصبره على مرضه يؤكد عمق إيمانه وكثرة حمده لله والثناء عليه والشكر له عز وجل في كل حال حتى ومع ارتفاع درجة حرارة مرضه ومعاناته الصحية الحالكة. فترك لنا دروساً عظيمة في حسن الظن بالله والثقة به، والإيمان التام أن المؤمن كل أمره خير كما قال الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام في حديث رواه الإمام مسلم: «عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ».
رحم الله فقيدنا الغالي وشيخنا الفاضل (محمد بن سليمان) وأسكنه فسيح جناته وجعل ما أصابه من مرض وسقم تكفيراً للخطايا ورفعة في الدرجات تغمده الله بواسع رحمته.
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.