ياسر صالح البهيجان
اتجاه المدن نحو استقاء نماذج عالميّة في تشكيل فضائها العمراني أنتج أزمة واضحة أسهمت في فقدان العديد منها لهويتها الأصليّة، وهو فقدان لا يقف عند حد غياب العناصر المعمارية والعمرانية التراثية عن البيئة المكانية المحليّة، وإنما يمتد ليشمل الذاكرة الثقافيّة للمجتمعات، وما تحمله من قيم حميمة تربط الإنسان بالأرض، وتمد الجسور فيما بينه وبين ماضيه الإنساني؛ ليسبر من خلالها أغوار مستقبله بخطوات واثقة، واعتزاز منقطع النظير.
خطورة تغيّر الهويّة الثقافية للمدن تكمن في أنها عمليّة تحدث على المدى الطويل وبشكل تدريجيّ غير محسوس، إلى أن تبلغ ذروتها عندما تجد الأجيال اللاحقة نفسها أمام فضاء مكاني بلا ذاكرة، وهو دون شك تحدٍ شائك أجزم بأن معظم مدن العالم تعاني منه، وهو ما جعل هذه الظاهرة تطفو على السطح، وتنال نصيبًا وافرًا من الدراسة والبحث، وتتصدّر قضايا المؤتمرات الدولية المتصلة بالتخطيط الثقافي للمدن.
الرؤية الطموحة لوطننا العظيم، تنبهت لأهميّة تعزيز الهويّة الوطنيّة على الأصعدة كافّة، ومنها الهويّة الثقافية لمدننا، وانطلقنا نفكّر بجديّة في إعادة إحياء البلدات القديمة، ومراكز المدن، ليس من الناحية المعمارية والعمرانية فحسب، وإنما عبر استعادة حالتها الديناميكية وتفاعلها الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وأحرزنا تقدمًا لا بأس به في المرحلة الراهنة، ولا يزال الطريق طويلاً لبلوغ المستوى المأمول في المشهد الثقافي الوطني.
ثمة مكونات متعددة علينا مراعاتها لنحافظ على هويّات مدننا، وفي مقدمتها المحافظة على هيكلها المادي والاجتماعي والثقافي، ومراحل التطور التاريخي للمدينة، وخصائصها المكانية، ومظاهرها البصرية، ونمط حياة السكّان فيها، والسلوك الاجتماعي في فضائها العمراني، ومقومات بنيتها التحتية الحضرية.
وفي ضوء ذلك، لم تعد مهمة المحافظة على هوية المدن شأن المخططين الحضريين فحسب، وإنما يتقاسم معهم المخططون الثقافيّون الأدوار، إن أخذنا في الحسبان علاقة التأثير والتأثّر فيما بين البيئة المبنية وفراغاتها والبيئة الثقافيّة وما تحمله من قيم مجتمعية وعادات وتقاليد وأعراف وأنماط سلوكية وحياتية وذاكرة جمعية؛ لذا بات ضروريًا إشراك المختصين في المجال الثقافي ليسهموا في استلهام المظاهر الثقافيّة التاريخيّة والوطنية.
إنشاء مخطط ثقافي لكل مدينة سعوديّة سيمثّل الانطلاقة الحقيقيّة نحو بناء هوية راسخة ومتينة لمدننا، على أن يتضمن المخطط إحياء المواقع التاريخيّة، وإبراز الحضارات التي أقيمت فيها، وتسليط الضوء على الأماكن التي سار عبرها المؤسس الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه لتوحيد المملكة، وتحويل المباني الحكومية التي شيّدت في عهده إلى متاحف تروي مسيرة التطوّر والازدهار في كل قطاع، وإعادة إنشاء البوابات والحصون والأسواق الشعبية، وغيرها من المظاهر الثقافية بحسب ما تتميز به كل مدينة وما تنعم به من إرث ثقافي جدير بالاحتفاء.
** **
- ماجستير في النقد والنظرية