عبد الرحمن المعمر
وأنا أمضي صائفة هذا العام 2021م في ربوع الطائف المأنوس، تسلل إليَّ عشيَّة يوم الاثنين 9 أغسطس 2021م خبر بالهاتف ينعى الأخ الكريم والزميل القديم الأستاذ محمد بن أحمد الشدي رحمه الله، فوجمت وتلعثمت، اضطربت الكلمات وسالت الدموع، وشعرت أنني كل يوم أفقد صديقاً، وهكذا هي الدنيا:
ولا ينبيك عن خلق الليالي
كمن فقد الأحبة والصحابا
لقد عرفت الصديق أبا عبدالعزيز يوم كان يعمل في وزارة المواصلات، ويمارس الصحافة عبر كتابات مختلفة هنا وهناك، منذ أكثر من خمسين عاماً، وقبل أن أتولى رئاسة تحرير جريدة الجزيرة، فتعارفنا وتزاملنا، حيث كنت ألتقي به مصادفات كثيرة نتبادل أطراف الحديث، واستمر في شغفه الصحفي، فعمل في مكتب جريدة المدينة في الرياض، ثم تطورت الأيام به وبي؛ فأصبح مديراً ثم رئيساً لتحرير مجلة اليمامة، وسبقته أنا برئاسة تحرير جريدة الجزيرة، فأمضيت بها ما شاء الله، ثم تحللت من العمل الصحفي ورجعت إلى مرابع صباي في الطائف مهوى الفؤاد ومستراح الروح.
وحين تولى رئاسة تحرير اليمامة حوالي العام 1971م قام على تطويرها واستكتب فيها عدداً من الكتاب من أطياف وأجيال ومدارس مختلفة، وكانت المملكة في عقد السبعينيات الميلادية من القرن الفارط تمرُّ بمرحلة تحول اقتصادي واجتماعي كبير، وهي ما سميت بالطفرة، فقاد اليمامة نحو التميز، وحجز لها مقعداً في سوق تتنافس فيه المطبوعات خاصة المجلات الأسبوعية التي تأتي من الكويت ومصر ولبنان وقبرص وغيرها، وكانت تلك المجلات تعج بالصور الملونة الجاذبة خاصة صور النجمات والفنانات، وليدرك قارئ اليوم معنى هذا، وله أن يتخيل كيف كانت تلك المجلات الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها مشاهدة الصور الملونة، فلا التلفزيون كان ملونا، ولا الوسائل والأجهزة التقنية المتاحة اليوم كانت موجودة، ومن مشاهدات ذلك الزمن أن كثيرا من الشباب -وحتى الشيوخ- كانوا يقصون الصور التي يعجبون بها من المجلات، ويعلقونها أو يلصقونها على جدران غرف بيوتهم، وبعضهم داخل أبواب سياراتهم، لكن أبا عبدالعزيز استطاع أن يوفر مادة صحفية دسمة وجاذبة من خلال المقالات والمقابلات والتقارير والقضايا التي كانت تطرح على صفحات اليمامة أسبوعيا، كما تميزت اليمامة في عهده بأن فسحت مجالا أكبر للثقافة أدبا وشعرا ونقدا وقصة كما أفسحت صفحاتها لأقلام نسائية وشبابية كانت بداياتهم من خلالها.
كانت اليمامة تصدر كل جمعة وهو يوم الإجازة الوحيد وقتذاك إذ كانت أيام العمل والدراسة ستة أيام من السبت إلى الخميس حتى أصبحت الإجازة الأسبوعية يومين (الخميس والجمعة) في أوائل عهد الملك خالد عام 1975م.
كان مقر اليمامة المؤسسة والمطابع في الملز على طريق خريص، في المنطقة الواقعة بين شارعي الستين والأحساء، ويطل على كوبري الخليج الآن، وكانت تطبع كباقي مجلات تلك الأيام بالحجم (التابلويد) تقريبا، وهذا المقاس أكبر من مقاس المجلات اليوم.
تطورت علاقتي بأبي عبدالعزيز وتوطدت، وساهمت معه بعد عودتي من هجرتي الأولى إلى لندن ببعض المقالات التي كان يهتم بها وينشرها في الصفحة الأخيرة من المجلة، ومن أشهرها مقالي المعنون (وقد يجهل الإنسان وهو مدكتر) وهذا المقال مضى على نشره قرابة خمسة وأربعين عاماً، إذ نشر في العدد 436 الصادر يوم الجمعة 16 صفر 1397هـ الموافق 4 فبراير 1977م، وهو من أوائل المقالات التي هاجمت حملة الدكتوراه المزيفين، وأؤكد على أنهم مزيفون لأن هناك دكاترة حقيقيين، لكن المزيفين قد كثروا مع الأسف وخدعوا الناس، وكان لهذا المقال ضجة وأصداء.
ومن مشاركاتي التي لا أنساها في اليمامة كذلك مقال نشر لما كانت الشركات الأجنبية تعمل في مشاريع خطط التنمية، واستقدمت معها أعداداً كبيرة للعمل من الأوروبيين وغيرهم، ووظفت بعض تلك الشركات سكرتيرات أوروبيات، فنشرت مقالاً عنونته (إلى ذوات العيون الزرق) وقد شرق ذاك المقال وغرب وحفظه كثير من المدلهين والعشاق، وذكرت في هذا المقال بأنه ورد في الآثار أن الزرقة في العين يُمن، ورددت على المعترضين على زرقة العيون وأنها ليست من الجمال، واستشهدت بقول الشاعر أبو الأسود الدؤلي:
ولا عيب فيها غير زرقة عينها
كذاك عتاق الطير زرق عيونها
ولما تولى رئاسة مجلس إدارة الجمعية العربية السعودية للفنون بعد الأمير بدر بن عبدالمحسن في عام 1977م وكانت تتبع الرئاسة العامة لرعاية الشباب سعى بدعم وتوجيه من الرئيس العام حينذاك الأمير فيصل بن فهد إلى تحويلها إلى الجمعية العربية السعودية للفنون والثقافة، ثم قدمت الثقافة على الفنون حوالي العام 1978م. وكنت إذا حضرت إلى الرياض ألتقي به وببعض الأصدقاء من إعلاميين وأدباء وصحفيين وزوار للرياض في مكتبه بالجمعية الذي كان ملتقى ومنتدى للمثقفين والفنانين، كما أن علاقته بالصحافة لم تنقطع إذ استمر يكتب بعض المقالات، كما رأس مجلس إدارة مجلة التوباد التي صدرت عام 1987م عن الجمعية كمجلة ثقافية أدبية، وكان رئيس كتبتها (تحريرها) الشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري عفا الله عنه، وأذكر من ضمن المشاركين في تحريرها الدكاترة محمد بن سعد الشويعر ويحيى ساعاتي، ومن جيل الشباب حينذاك عبدالله الصيخان وسعيد السريحي، وأشرف كذلك على مجلة الجيل التي أصدرتها الرئاسة العامة لرعاية الشباب، كما أسس مع شقيقه علي دار الوطن للطباعة والنشر والإعلام، وتعد من دور النشر الرائدة في الرياض، وصدر عنها عدد من المطبوعات المتخصصة، أذكر منها مجلة السنبلة التي كانت تعنى بالشأن الزراعي.
وهو -رفع الله درجته- رجل هادئ الطبع، قليل بل نادر الانفعال والغضب، سليم القلب، لا يحمل على أحد ولا ينتقم لنفسه، يحب الخير ويسعى لنفع الناس، ولا أذكر أنه ضار أو ضر أحداً، فقد جبل على حب الخير والتسامح، وأعرف أنه كان يعين بعض من يعملون معه، ويرفدهم ويمدهم بمساعدات، كان -غفر الله له وأعلى منزلته- نفَّاعا لا ضرَّارا، متغافلا لا غافلا، حتى وإن علم أن الذي نفعه أو ساعده لا يستحق، يتغاضى ويتغافل، فهو أستاذ في مدرسة التغافل، ينطبق عليه قول أبي تمام:
ليس الغبي بسيد في قومه
لكن سيد قومه المتغابي
يعني (سو نفسك ما تدري وأنت تدري) حتى لا تحرج الآخر، تغافل ولا تكن مغفلاً.
ولما افتتح فرع للجمعية في الطائف اختير الفنان والموسيقار الشريف عبدالله جعفر مرشدي مديراً للفرع، والأستاذ عبدالله كان زميلاً لي في المدرسة السعودية الابتدائية في باب الريع، لذلك اختارني الأستاذ محمد أن أكون رئيساً للقسم الثقافي في الجمعية، وكأنما أراد أن ينفعني جزاه الله خيراً، وفعلاً استجبت لإلحاحه، مع أنني لا أحب الارتباط بأي عمل يقيدني، لكن هذا العمل كما يقال (صادف قلبا خاليا فتمكنا) لأنه عمل ثقافي أميل إليه، وبعد مدة رأيت أن أترك العمل، مع أنه لا يأخذ مني جهدا كبيرا، والجمعية دوامها مسائي لا صباحي، لكنه جاء بعد أن ازدحمت علي الرغبات والخواطر، فقد تعرفت في هذه الفترة على الطريق إلى تونس، وأصبحت أسافر إليها كثيراً، وأطيل المكث بها أكثر، فقررت التحلل من هذا العمل، فاتصلت بالأخ محمد رحمه الله معتذرا عن عدم الاستمرار في الجمعية، فانزعج وألح علي بالبقاء، واتصل بالشريف عبدالله المرشدي ورغب إليه أن يسعى في ثنيي لكنني كنت مُصرًّا.
وفي إحدى السنوات كنت في سوريا مصطافاً، فجاء وفد ثقافي كبير يضم عدداً من المثقفين والشعراء والفنانين لإحياء أيام ثقافية سعودية في سوريا، وكان على رأس الوفد الصديق والزميل محمد الشدي، فسأل عني واتصل بي، وقال إنه موجود في دمشق، ويريد أن أحضر لنلتقي معاً، وهكذا الأستاذ محمد لا ينسى أصدقاءه وأحبابه، فلبيت طلبه وقصدت دمشق من ضاحية عين الخضراء حيث كنت أقيم، والتقيت به واستعدنا بعض الذكريات، وحضرت بعض الفعاليات معه ومع الملحق الثقافي السعودي بدمشق الشاعر والأديب الأستاذ خالد بن محمد الخنين حيا الله ذكراه، هذا المثقف الكبير الذي لا يعرفه الكثير هو من سعى لإقامة تلك الأيام والليالي الثقافية السعودية في سوريا.
وصلتي بشقيقه الأخ علي مثل صلتي بالأخ محمد، فهما من أسرة مباركة ودوحة كريمة، والأستاذ علي كان زميلاً لأخيه محمد في الصحافة، وملازماً له في الثقافة، ومجاوراً له في مرضه حتى آخر أيامه، فحيا الله الصديق أبا عادل وجزاه خير الجزاء. وكان الأستاذ محمد وشقيقه الصديق الأستاذ علي يداعبانني على حبي للطائف، فأرد عليهما بأن الطائف هو البلد الذي نشأت فيه وتفتحت عيني على مغانيه ومجاليه، والأخ محمد من أعيان حريملاء، ولد على ثراها حوالي العام 1941م وبدأ خطواته الأولى وتعليمه الأولي فيها، وظل ارتباطه بها حتى بعد انتقاله مع أسرته وهو صغير للرياض، وسعى لخدمتها في أكثر من مجال، وكان دائماً يدعونني لمصاحبته إليها، ويعز علي أن أفقده اليوم دون أن ألبي طلبه، حيث عانى من اعتلال صحته في السنوات الأخيرة، وكنت أثناء مرضه كلما اتصلت بشقيقه علي أقول «أبلغ الأخ محمد تمنياتي له بالشفاء»، فكان يطمئنني، وكنت أمني نفسي بلقائه، لكن قضاء الله كان أسرع، كما احتضنت أرضها جسده بعد وفاته.
وقد عانى -رفع الله درجته- من فقدان ابنه عبدالعزيز ثم زوجته، إضافة إلى معاناة المرض، فصبر واحتسب، وأسأل الله عز وجل أن يوفيه أجر صبره، وأن يكون ممن قال تعالى فيهم: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
وبعد؛ فهذه بعض من ذكريات -عنت لي- وخواطر سريعة وقليلة في حق الفقيد الكبير، لقد هزتني وفاته كثيراً، لكنها كلمة حرى ودمعة حزنى أذرفها في ذكرى الصديق أبي عبدالعزيز، وقد تأخرت بها ولكنني كنت أغالب الأحزان.
أبْلغ العزاء لأسرته الكريمة وأبنائه النجباء وشقيقه الصديق والزميل الأستاذ علي، ورحم الله الراحل الكبير والصديق الأثير محمد بن أحمد الشدي.
تركوك في المثوى الأخير وغابوا
وتقطعت من دونك الأسباب
** **
- الطائف