د.إبراهيم بن عبدالله السماري
بالتأمل في طبيعة العمران البشري عبر العصور وإلى يومنا الحاضر نجد أن الانتماء الوطني دافع قوي لحركته، وباعث مؤكد لتفاعله وحماسته، وفي العصر الحاضر تعددت صور ذلك الانتماء ودرجاته ومراتبه وما يمكن تسميته: «مستوياته الاجتماعية» فلم يكن مستغرباً أن تجد في مجتمع صغير وهو الأسرة هذا الانتماء ينبت في حديقة غناء بالمعطيات المعرفية والثقافية، عبر مجلة أسرية، أو اجتماع أسري، كي يشعر جميع أفراد الأسرة بالانتماء لها من خلالها، وفي مرحلة لاحقة يتم التوجيه السليم لهذا الانتماء نحو المصلحة العليا لهذه المجموعة المنتمية، وهي المصلحة الوطنية، وهو ما تجسده في بلادنا الحبيبة المملكة العربية السعودية عددٌ من الجهات الحكومية، وأطيافٌ عديدة في المجتمع السعودي، وبعض الأسر الكريمة التي لها مبادرات متميزة في إبراز تأريخ تلك الأسر والعلاقات الاجتماعية الراشدة بين أفرادها وبينهم وبين غيرهم من الأسر الأخرى، مع الحرص على الانتماء الوطني؛ عن طريق إبراز جهود أفراد هذه الأسرة في خدمة الوطن عبر تأريخه الطويل وبخاصة مباعث الفخر والاعتزاز بالمشاركة في جهود التأسيس والتوحيد.
والاجتماعات والمجلات الأسرية سوق رائجة لا تقوم ولا تدوم إلا على بضاعة تعرض فيها، يذكر ابن خلدون وغيره من علماء الاجتماع مدنى بالطبع، يحب الاجتماع ويأنس بالنظير، بل إن النصوص الشرعية دلت على أنه يقوى ويقدم على الفعل بتأثير محاكاته وتواصيه مع غيره، وفي الاجتماعات والمجلات الأسرية يصبح هذا التواصي فعلاً ثقافياً يحظى بالقبول وبالتفاعل، ويجسّد معاني التعاون على الخير والانتماء الوطني.
المجلات الأسرية حراكٌ ثقافي «وُرَاقِيٌّ» يأتي في صورتين زاهيتين، هما المجلة المطبوعة ورقياً، والنسخة الإلكترونية منها، فهذا العمل الرائد -في نظري- يلبس ثياب الحافز ليُنتِجَ هذا الحراك وليُثمِرَ مستفيداً من مساحة المنافسة المشروعة في ميادينها الرحبة، وبالتالي فالصفة الغالبة لها أنها ذات طبيعة ثقافية تعاونية وتفاعلية.
وبين يدي الآن من واحدة من المجلات الأسرية الرائدة، تصدر بصفة دورية منذ عام 2008م، هي مجلة «آل سدحان»، يرأس تحريرها الأستاذ عبدالرحمن السدحان، أبو ماجد، أما مستشارا التحرير فهما الشيخ الدكتور عبدالعزيز السدحان، أبو عمر، والأستاذ فهد بن السدحان، أبو معاذ، اللذان يبذلان جهوداً كبيرة لتظهر المجلة بصبغة ثقافية متينة، تعبّر عن مكانة الأسرة في المجتمع، وقد صدر العدد الرابع عشر في 1442/8/27هـ (2021/4/9م) وتُطبَع نسخُ هذه المجلة ورقياً وإلكترونياً، منذ تأسيسها على نفقة رئيس التحرير الذي كانت كلمته في نهاية العدد عن شخصية العدد (ملف المجلة) الشيخ عبدالرحمن السدحان، راوية شقراء، وعن حديثه الثري بالأحاديث والقصص والحكايا والقصائد الشعرية الغنية بالفوائد الشرعية، والتأريخية، والأدبية، والاجتماعية، وغيرها، مشيراً إلى أن هذا العدد عُنِي بما أمكن العثور عليه من مذكراته وكتاباته ومروياته، التي تنشر لأول مرة، وأن الجزء الأكبر منها سيخصص له كتاب مستقل، لتوثيق سيرة «راوية شقراء» من تأليف الشيخ الدكتور عبدالعزيز السدحان «أبي عمر»
وفي هذا العدد عددٌ من المقالات، من أهمها ما كتبه الشيخ الدكتور عبدالعزيز السدحان: «شيء عن والدي» مبرزاً وقفات من البرّ وأثره في تربية الأبناء، ومقال رئيس التحرير عن «لقاء الناصرية» بأسرة الناصر، ليأخذنا فهد بن محمد السدحان إلى بحر الجغرافيا من خلال التركة العلمية والرسوم الجغرافية للسدحان الجغرافي سعود بن ناصر السدحان الذي عاش في الأحساء وكانت له مكانةٌ علمية مرموقة.
ومن الالتفاتات الإثرائية في هذا العدد استراحة ثقافية عن تأريخ التصميم الجرافيكي عبر لوحات تبين أماكن ومراحل تطوره، أعدتها أ. فهدة السدحان، كما كتب الدكتور عبدالله بن ناصر السدحان عن «طلاب شقراء النوابغ» و«المدرسة السعودية الأولى بشقراء» ثم يتوسط العدد ملفُّه عن «راوية شقراء الشيخ عبدالرحمن بن محمد السدحان رحمه الله» متضمناً التعريف بالشخصية، و«حادثة سقوط البيت» و«من ذكريات الشيخ» و«الشيخ يضع نواة جمعية تحفيظ القرآن الكريم في شقراء» و«من أوراق الشيخ: مساجد شقراء» «ذكريات الشيخ في معهد شقراء» و«قالوا عن الشيخ» متضمناً ما قاله عنه عدد من المسؤولين والمثقفين.
وفي العدد «ضيف المجلة: دليل شقراء - عبدالله المجيول» ومقال عن «شقراء وجائزة الملك فيصل العالمية» كتبه د. إبراهيم الهدلق، كما كتب د. صهيب عالم من الهند مقالاً حصرياً للمجلة عن «تاجر الخيول النجدي في الهند عبدالرحمن المنيع» كما كتبت أ. ديمة السدحان عن «حجرة السكور» وهي حجرة طينية تراثية، ثم يصافحنا عمودٌ إثرائي كتبه بأسلوبه المميز أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري بعنوان: «أنا مغترب والراحلون هم».
مجلة «آل سدحان» الأسرية طبعت طباعة أنيقة، ويشد القارئ لمتابعتها العدد الكبير من الصور والوثائق الواضحة التي ينشر بعضها لأول مرة، وثراء التوثيق والمادة العلمية، بما يحقق أهدافها ويتخطى بها نظيراتها ورصيفاتها.
وهذا هو السمة البارزة لكل أعدادها حيث يُخصَّص ملفٌ لكل عدد لاستضافة شخصية بارزة من داخل الأسرة أو من خارجها، كما تُستكتب أقلامُ العلماء والمؤرخين والأدباء والمتخصصين في مختلف مناحي الحياة.
ففي العدد الثالث عشر -مثلاً- نجد مقالاً لمحمد السيف بعنوان: «الملك عبدالعزيز يصطحب حصة السدحان في جولة بقصر المربع»، ومقالاً عن «الشيخ المربي الدكتور عبدالرحمن السدحان» بقلم أ. عبدالعزيز بن عبدالكريم العيسى عضو مجلس الشورى.
كما تضمن العدد «شوارد وذكريات معالي الدكتور محمد الشويعر» نقلها الشيخ الدكتور عبدالعزيز السدحان، وكان ضيف العدد عميد أسرة السدحان في الأحساء «محمد بن فهد السدحان»، وتضمن العدد حواراً مع «صقّار السدحان» وجوائزه الوطنية التي فاز بها.
وفي العدد الثاني عشر نجد مقالاً للدكتور عبدالله السدحان عن حياة «إمام الحرم النبوي -عبدالمجيد الجبرتي- في شقراء» حيث عمل مديراً لمدرستها الابتدائية، ومقالاً للدكتور خالد الكريري عن «مَلْقَى الأحبة شقراء في كتابات الساسة والرحالة البريطانيين» وكان ضيف المجلة «قائد ملحمة صعود الوشم الأستاذ سعد أبو عباة» الذي قاد فريق الوشم لكرة القدم إلى الصعود لدوري الأمير محمد بن سلمان لأندية الدرجة الأولى، مما يدل على تنوع مجالات المجلة في توثيق الانتماء الوطني، وتضمَّن العدد مقالاً لمعالي الشيخ د. عبدالله بن منيع «ساعة مع كتاب» كتاب البيعة بيعة وولاء أهالي شقراء للدولة السعودية، مما يؤكد ارتباط النطاق الجغرافي والتأريخي للمجلة بالانتماء الوطني.
وهكذا في الأعداد الأخرى يتجلى الأثر القوي لمجلة «آل سدحان» في تنمية الولاء وتمتين النسيج الوطني من خلال التنوع المعرفي، وإبراز محددات ذلك الولاء وخصائصه وتعدد مجالاته، عبر الكلمة والصورة، والتوثيق العلمي الصحيح.
ويمكن أن يُلحَقَ بالمجلات الأسرية القنواتُ الإلكترونية ذات الطبيعة الإثرائية تأريخاً وتراثاً، كـ«قناة ذكريات» و»قناة ذكريات شارع العطايف» على «اليوتيوب» و«تويتر» وهذا يحدوني إلى أن أوصي المراكز العلمية في بلادنا بالاستفادة مما ينشر في هذه المجلات والقنوات، ودعمها وتشجيعها لإثراء التاريخ الوطني، وتحقيق متطلبات الانتماء للوطن.
وبالله التوفيق.