ربما لا يوجد عربي يشاهد الفضائيات لا يعرف برامج «أحمد الشقيري» التي رفعت سقف توقعات الإنسان العربي من نفسه وواقعه وألهمته للسعي لإصلاح الواقع السلبي بدل الاستسلام لإحباطاته عبر عرضه للأحوال المثالية بكل مجالات الخدمات العامة في الدول المتقدمة، وهذا تماماً ما فعله المخرج الأمريكي «مايكل مور» الحائز على جائزة الأوسكار عن أحد أفلامه الوثائقية وتعتبر أفلامه الوثائقية الأعلى تحقيقاً للأرباح تاريخياً عن فئتها، وبالمثل أيضاً أحدثت أفلامه الوثائقية يقظة وعي للجمهور الأمريكي؛ فالأمريكيون كانوا بالفعل مصدقين دعاية أنهم يعيشون في أعظم الأحوال عالمياً وأن أهل العالم كلهم يحسدونهم على مدى روعة حياتهم وعظمة بلدهم، لكن الأفلام الوثائقية لمايكل مور فتحت عيون الأمريكيين على حقيقة أن غيرهم بالعالم لا يعانون مثلهم للحصول على الخدمات الأساسية، ومستوى الخدمات العامة المتاحة للأمريكيين يماثل الحال بأفقر بلدان إفريقيا ولذا على سبيل المثال عدد وفيات المواليد بأمريكا يقارب عدد وفيات المواليد بأفقر دول إفريقيا لأن أمريكا الدولة الصناعية الوحيدة التي تتبنى نسخة الرأسمالية المتطرفة التي تسمى بـ»الرأسمالية الداروينية/ المتوحشة» والتي لا تقدم فيها الدولة خدمات أساسية للمواطنين بدون مقابل مالي كالعلاج الطبي المجاني والتعليم الجامعي المجاني، ولذا بسبب عدم قدرة كثير من النساء على دفع تكاليف الإشراف الطبي على حملهن وكون عشرات الملايين من الأمريكيين يعملون بمهن لا توفر لهم تأميناً طبياً فمستوى وفياتهم بالأمراض تقارب تلك التي بالدول الإفريقية التي تفتقر للمستشفيات، حتى أن مايكل مور بأحد أفلامه الوثائقية زار تونس وأظهر أن نظام الرعاية الصحية للنساء فيها أفضل من الذي في أمريكا، وكشف أن مستوى الرواتب بأمريكا هو الأدنى بين الدول الغربية وأجرى مقابلات مع طيارين أمريكيين أخبروه أنهم مضطرين لبيع دماءهم للحصول على دخل إضافي لشدة انخفاض رواتب الشركة ويعملون جرسونات ومنزهين لكلاب الناس! فالرأسمالية الداروينية بأمريكا منعت تكوين نقابات تدافع عن حقوق العاملين وسخرت الأنظمة لخدمة أصحاب رؤوس الأموال الذين يتابعون تخفيض رواتب العاملين وزيادة ساعات العمل وذلك لزيادة الأرباح لأصحاب رؤوس الأموال، وجميع الأوروبيين الذين قابلهم اعتبروا الحياة بأمريكا جحيماً لا إنساني ورفضوا العيش فيها، وقابل أمريكيين هاجروا لأوروبا لأجللتعليم الجامعي المجاني والعلاج المجاني والرواتب العالية وثقافتها غير العنيفة وإنسانية سلطاتها، ولذا الصدمات الحضارية القائمة على المقارنة بين السائد المحلي وبين الحال المثالي في بلدان أخرى هي محرك هام وأساسي لإحداث يقظة وعي تحفز إصلاح الواقع الراكد السائد.
** **
bushra.sbe@gmail.com