من حسن حظي عندما التحقت بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وبالتحديد عام 1432هـ وتحققت الوظيفة التي كنت انتظرها على أحرّ من الجمر بفضل الله ثم بفضل دعوات صعدت إلى السماء من أمي - حفظها الله- وأبي –رحمه الله- عملت في عمادة «الموهبة والإبداع والتميز»، العمادة التي تأسست على يد الدكتور: عبد الله بن ثاني الذي أدارها بفكره الإداري والإبداعي وحلّق بها في فترة وجيزة في سماء النجاح، كانت هذه العمادة الفتية تقدم (مؤتمرات، وملتقيات، وبرامج، ومحاضرات،...) تصب في مصلحة الابتكار والاختراع والذكاء الاصطناعي.. وأزعم بما أنني كنت أحد طاقمها أن هذه العمادة الفتية كانت سباقة في فتح النوافذ نحو المستقبل لجامعة عريقة كان تركيزها الأكبر قبل هذه العمادة على تخصصات نظرية: (اللغة العربية، الشريعة، أصول الدين..) ومن حسن حظي أكثر وأكثر أنني حين عملت في هذه العمادة المغرية باسمها وبفريقها وبرؤيتها وخططها المستقبلية عملت تحت إدارة «مثقف حقيقي» أقصد الدكتور: عبد الله بن ثاني، وشهادة للتاريخ أنه من أجمل وأعظم من عملت معه، كان قريبًا من الجميع وكان رائعًا في تعامله مع الزملاء وفي إدارته للعمادة الفتية، ظهر جليًا هذا الحب عندما غادر العمادة بعد أن عُين وكيلًا للجامعة لشؤون المعاهد العلمية، كنا نبارك له بكلمات تكاد تذرف الدمع من الحزن على مغادرته لنا، وتركه للمكتب المعطر برائحة القهوة والقصائد، والروح الجميلة، بل إن أحد الزملاء (فارس العميري أبو سلمان) لم يتمالك نفسه وذرف الدمع الحقيقي.. (والناس شهود الله في أرضه)..
الدكتور: عبد الله بن ثاني لمن لا يعرفه:
(أستاذ جامعي، كاتب، مؤرخ، شاعر، نحوي، روائي، إداري..)
ومن يعرفه عن قرب يحبه أكثر وأكثر.. ويعرف ما هو عليه من ثقافة واسعة ولغة رائعة، ولطافة ورقي، مع بداية عملي معه في عمادة «الموهبة والإبداع والتميز» كانت الصحافة الورقية تعيش وهجها آنذاك، وكانت مقالات الدكتور: عبد الله بن ثاني في جريدة الجزيرة لها (شنة ورنة) وعناوينها، أحيانًا تتصدر صفحاتها الأولى، في تلك السنوات الجميلة أقصد من عام 1432هـ إلى 1438هـ كانت جريدة الجزيرة توزع داخل الجامعة مئات النسخ.ليست مبالغة في إحدى هذه السنوات تكاد الجريدة تكون في يد كل طالب، ويد كل موظف، ويد كل أستاذ، وكانت مقالات الدكتور عبد الله النارية تناقش قضايا فكرية، وفي ثناياها وعناوينها قضايا جدلية ورسائل لأسماء كبيرة وأسماء مثيرة للجدل حقيقة لم أكن أتفق معه في كل شيء، ولم أصفق لكل ما كتب، ولكن من «وجهة نظري» كقارئ يمارس الصحافة والعمل الإعلامي و»يهتم ويتهم» بالثقافة، كانت مقالاته ثرية و»كاملة الدسم» وأراها في وقتها تشد القارئ حتى ولو لم يتفق مع كاتبها.
كيف أقيم مقالات أستاذنا!؟
وهو الذي توّجه رئيس تحرير الجريدة التي ينشر فيها مقالاته (جريدة الجزيرة) الأستاذ الكبير خالد المالك بهذه الكلمات:
«ابن ثاني شاعر كبير، وكاتب مميز، في شعره رصانة وجزالة وعمق، وفي نثره أسلوب مموسق وعبارة أنيقة، تقرأه شعرًا أو نثرًا فلا تشعر بالملل أو التشبع، فهو مثقف وأكاديمي لا يكرر نفسه، ولا يحاكي غيره، وإنما له مدرسته الخاصة، وبعدها الثقافي المميز».
من المواقف التي لا أنساها، دخول أحد الطلاب المتوترين الذين لم يستوعبوا (الرأي والرأي الآخر) ولم يعتدّوا بالمأثور «كل يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا القبر» حيث دخل علينا في مبنى عمادة الموهبة والإبداع والتميز يريد مناصحة الدكتور؛ لكن الدكتور استطاع أن يمتص غضبه وهو يرتشف قهوته بكلمات لطيفة وابتسامات خفيفة وبنصائح أهمها «الوطن يا أخي خط أحمر». وهذا واجبنا تجاه قيادتنا..
كل الذي أعرفه عن الدكتور: عبد الله بن ثاني أنه (وطنيّ) يحب وطنه حد الثمالة (وسلفيّ) يدافع عن السلفية بكل ما أوتي من كلمات.. ولا أظنه سرًّا مع (سلفيته) التي عرف بها أنه واجه رموز (السلفية المتشددة) في عدد من القضايا في المقالات التي نشرت، وخرج في نظري من دائرة (السلفيّ التقليدي) بثقافته الواسعة وبعشقه للأدب والجمال وبالشعر الذي يجري في عروقه، وقدّم رؤى ومقالات وأعمال تصب في بحر الثقافة والفن والجمال.
أتذكر مرة كتب مقالة في «قمة الروعة» عن كابتن البرازيل سقراط، ومرة كتب مقالة عن شاعر الشعراء المتنبي، وذات ليلة باردة ممطرة معطرة برائحة نباتات نجد ورمالها الذهبية وزّع على أصدقائه القريبين منه رواية عن (الحب) مملؤة بالشعر والعشق وفيها ما لذ وطاب من الجمال عنوانها (بيت الخبز).. «ولا أعرف سرّ تردده في عدم نشرها»، وسبق أن قدم للمكتبة كتابًا تاريخيًا عن (بني حنيفة)، وكتابًا فكريًا عن (تفكيك التوحش) وديوانًا شعريًا عنوانه (ملك قبل أن يتوج) ومع هذا ما زلت أشعر أن (عبد الله بن ثاني) في «الملعب الثقافي» -إن صح الوصف-، لم يقدم كل ما لديه ودائماً أشبه لمن يسألني عنه!!، بلاعب كرة القدم الفنان الذي يملك كل مقومات النجومية والفن والمهارة «مهاري وحريف» من الدرجة الأولى، يستطيع أن يراوغ ويمرر ويهاجم ويدافع ويسجل أجمل الأهداف من منتصف الملعب ومن جميع الزوايا ويذهل الجمهور أكثر وأكثر؛ لكن هذا اللاعب يميل إلى البرود، ويفضل تهدئة اللعب بل أحيانًا يعيد الكرة إلى الخلف وسط استغرابي أنا على الأقل!
من أفضاله عليّ التي لا أنساها، تطويره للغتي الكتابية، فعلى مدى سنوات عملي معه التي اقتربت من 8 سنوات، اعترف بأنني اكتسبت منه مهارات ومفردات دون أن يشعر فحين كنت أكتب أخبار العمادة بحكم إشرافي على العمل الإعلامي؛ لنشرها في الصحف وفي موقع الجامعة كنت أعرضها عليه قبل إرسالها للنشر وكان بقلمه الذهبي يصوب الأخطاء، ويضيف جملًا، ويستبدل كلمات.. وبطريقة غير مباشرة من أحاديثي معه واستحضاره العجيب للمقولات والقصائد، حببني في اللغة الشاعرية والحروف الفاتنة أكثر وأكثر، لدرجة قلت لأحد أصدقائي: إنّ ما اكتسبته من الدكتور: عبد الله بن ثاني من اللغة وأنا موظف يوازي ما خرجت به من كلية اللغة العربية وأنا طالب.. والشيء بالشيء يذكر مما كان يتميز به الدكتور: عبد الله بن ثاني «الكلمة» التي كان يلقيها بصفته عميدًا «لعمادة الموهبة والإبداع والتميز» في مناسبات العمادة المختلفة ومحافل الجامعة الرسمية، ففي الأغلب يقدم كلمة فخمة ومختلفة تحضر فيها اللغة، ومقولات الفلاسفة، وومضات الشعراء..
ومما يتميز به الدكتور: عبد الله بن ثاني إلى جانب لغته الشاعرية الرائعة، وتمكنه من تخصصه (النحو) وغيرته على اللغة العربية، وثقافته الواسعة في مجالات عدة، شعبيته وبساطته وروحه المرحة، فهو رجل مزاح وخفيف نفس ولطيف ويبقى في عيني أوضح أصدقائي «النخبويين» الذين يطبقون «لكل مقام مقال» ما أكثر ما كان يلطف اجتماعاتنا في العمادة بالقفشات (الشمالية) ويخفف من أجواء العمل الرسمي ومن توتر الموظفين بالكلمات وبالتشبيهات الظريفة، فلا يكاد يمرّ عليّ يوم من الأيام دون أن أضحك من (قفشة) أو نكتة أو موقف طريف..
وأكثر ما يضحكني إذا غضب في عزّ غضبه تختلط «اللهجة الشمالية» الظريفة بالفصحى العريقة، وتطير من لسانه كلمات متطايرة من بحار الثقافة العميقة ومن شموس الصحراء الأصيلة..ذات مرة كنت برفقته وهو يراجع «مؤسسة ثقافية» اعترضت على نشر ديوانه بسبب كلمة (مسحنفرات) وبلهجته الشمالية بعد أن طفح به الكيل من المراجعات ومن هذه المشاوير رفع صوته وهو يشاهد أمواج السيارات: «يا ذا الليل من (مسحنفرات) خلتني يا بو علي أضرب مشاوير مع طريق الملك فهد وهذا الزحام.. ولم يعرف (الأخ عضو لجنة التحكيم) أن الأخطل قالها في بلاط عبد الملك بن مروان الذي ضرب رجله طربا منها.. كارثة كارثة (يا بوعلي) يرددها وهو يحاول أن يتجاوز شاحنة ضخمة متوقفة وسط الطريق، وأنا غارق في موجة ضحك..ومن المواقف الطريفة التي لا أنساها، في إحدى السنين أقامت العمادة ملتقى للابتكار لطلاب وطالبات الجامعة، وكان هذا الملتقى نقلة نوعية للعمادة وللجامعة ومذهل لكل من حضر ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان!! في نهاية الملتقى قدم أحد المشاركين في الملتقى هدية (لمسؤول في الجامعة) وقتها، عبارة عن (نبتة) وعلق المسؤول على هذه الهدية بكلمات عفوية ظن من سمعها أنها عن ابتكار «مهم» من ابتكارات هذا الملتقى، وانتشر ليلتها المقطع في وسائل التواصل الاجتماعي وبدأت التغريدات الساخرة من المغردين تضرب جهد عمادتنا الكبير وتسخر من هذا الملتقى ومن الجامعة، بألم وحسرة حاولت ساعتها أن أتواصل مع عدد كبير من المغردين وأشرح لهم (الحكاية) ولكن كما يقول الشاعر الشعبي:
«انفكت السبحة وضاع الخرز ضاع.. بغيت ألمه يا سليمان وأزريت»
نسفت ليلتها جهود العمادة الجبارة وجهد الزملاء وفي مقدمتهم الدكتور: عبد الله بن ثاني الذي على مدى شهور تابع وراقب وأشرف على كل صغيرة وكبيرة تخص هذا الملتقى الكبير..
وفي عز صدمتي وإحباطي مما رأيته في «تويتر» تخيلت غضب الدكتور وذهوله وإحباطه، وحقيقة لم أتمالك نفسي من الضحك!! وهاتفته في وقت متأخر من الليل وقبل أن يسمع صوتي، سمعته يقول: (وش فيهم العالم انجنوا يا بوعلي)!! لا أدري ماذا قلت.. وماذا قال بعد هذه الكلمات، دخلنا في موجة ضحك «ولكنه ضحك كالبكاء»..!
ومن الليالي الفخمة التي لا أنساها حينما حضرت معه في الجنادرية قبل الأخيرة بعد أن اختير من أصحاب القرار لمنبر (شاعر الفصحى)، وكأن في اختياره لهذا المنبر الفخم تتويج ذهبي لشعره ولمواقفه الوطنية..
من قدري الجميل ليلتها أنني حينما ألقي تلك المعلقة، كنت جالسًا في المنصة الملكية، وكان الحفل بتشريف الملك سلمان بن عبدالعزيز ويا له من شعور وأنت ترى الجميع يصفق لأستاذك الحبيب وصديقك القريب.
يستحق (عبد الله بن ثاني) هذا التكريم، ويستحق مني أجمل الكلمات على ثقافته التي صعد بها، وعلى أفضاله التي غمرني بها، وعلى قربه الدائم.
هذا بعض ما لدي عن إنسان له في قلبي مكانة وله في تجربتي العملية والكتابية أثر.
** **
- عبد العزيز بن علي النصافي