د.خالد بن محمد اليوسف
غشي الليل المدينة وتعانقت السُّحب وعم الهدوء، وأطبق الصمت على كل شيء سوى أصوات خطى فزعة تجري إلى بيوتها مسرعة وجلة، تسابق غروب الشمس في غير موعدها خلف تلك الكثبان الملبدة المتوشحة بالسواد، فلا تسمع سوى هرير الرياح.. وصرير أبواب البيوت وهي توصد.. الجميع يترقب ويخشى.. والكل تفقد المزاريب والسطوح خوفاً من الطوفان!
كان البارعون في أحوال الطقس من أبناء القرية يحذّرون من فجر يومهم، ويَحذرون من ظلمات وبروق وسحب مازنات مع رعود صاخبات تكتم السماء وتحجب الشمس.. وتجعل الليل يحل في وسط النهار.
فالعيون خلف النوافذ شاخصة.. والأبدان واقفة.. والألسن تردد: الله أكبر.. سبحان من سبح الرعد بحمده.
انتظر الجميع ساعة الصفر.. فالرياح تقوى.. والبيوت تهتز.. والمعاليق تسقط.. والناس تتجه إلى السماء، وفي لحظة خاطفة سُمع صوت قوي شديد، سكت الناس، وجفت الحلوق، وتصبب العرق من فوق الجبين.
ثم ما لبث أن حل هدوء آخر، هدوء ليس معه ظلام، هدوء انتشرت معه خيوط الضياء لتبدد كل ظلمة ولتقشع كل كربة، تعجب الناس من عودة الضياء وشروق الشمس في غير موعدها أيضا، حيث انقشعت سحب الركام وتصاغرت تلك الكثبان وأسرعت في الرحيل كل سحابة تلحق مسرعة بأختها تخشى أن تتركها وحيدة في سماء القرية، اختفى كل صوت عدا صوت الهواء يطرق الأبواب، ففتحت وارتسمت السعادة على وجوه القوم الصغير والكبير، الرجل والمرأة، فخرج الناس إلى الأسواق.. وبدأت الحياة تعود من جديد إلى كل شارع وطريق في القرية.. حياة الأمل الجديد في كل يوم، وبقي أحمد وحيدًا في غرفة بيته ينتظر القادم، الضيف الكبير.
طَرق الباب، فقفز أحمد سريعًا، يجري بكل ما أوتي من قوة متجهًا نحو الباب الذي يقف وراءه أمل الحياة، تفكر وهو يجري في حاله تلك العشر سنوات السابقات، كيف مات أبوه، ثم أمه، ثم شقيقته الصغرى بمرض أصابها، وكانوا يحلمون ويمنّون النفس بعودته، أن يشاهدوه بعد عشرين سنة من الغياب، تذكر كيف كان وإياه يلهوان ويلعبان، يركضهما هما خلف الآخر.. في مشهد طفولي رائع لم تمحه هذه السنون الغابرة من مخيلة أحمد ذلك الشاب الراكض نحو الحياة الجديدة!
تذكر أيضًا كيف كان أبوهما يخاف عليهما أن يبتعدا، يخاف عليهما خوفًا شديدًا، حتى أنه يخاف عليهما من ظل الشمس الصيفية الحارقة، علمهما وأحسن تعليمهما عند شيخ الجامع الكبير، فقرآ القرآن ودرساه وحملاه في صدورهما.
ما الذي جعل محمد يذهب؟ وما الذي غيره ليترك أباه وأمه؟ وما الذي قلب المفاهيم لديه؟.. بداية الشر.. إنه مصطفى ذلك الغريب عن البلدة العجيب في تصرفاته!.. لكن من هو مصطفى؟.
لم يكن مصطفى إلا رجلا من دولة مجاورة، جاء للقرية منذ سنوات، واستقر فيها سنوات ووثق به أهل القرية لما أظهر من تدينه، وحسن مظهره، كان ذا وجه يشرق نورًا، ولحية يخالط سوادها البياض، سلمه إمام الجامع حلقة القرآن في المسجد، بدا مصطفى متحمسًا نشيطًا، ويعمل بكل طاقته في تعليم القرآن لأطفال وأولاد القرية، فاستمر كذلك، واستمر أهل القرية في الاحتفاء به كذلك، وبعد زمن اشتكى أهل القرية من تغير سلوك بعض أبنائهم نحو الشدة قليلاً والسكوت كثيرًا، فبدأ هؤلاء الصغار يشددون على الناس في دينهم، وينكرون كل مظهر للفرح أو السعادة.. بدؤوا يعلمون آباءهم وأمهاتهم كيف يكون الدين الصحيح! والآباء والأمهات يسايرونهم محبة فيهم وأملاً في تغيرهم مع مرور السنين! إلى أن حلت الصاعقة، ووقعت الكارثة، فحدث نقاش حاد بين محمد وأبيه عندما أنكر عليه مشاهدة التلفاز! وخروج أخته لبيت خالتها المجاور بلا محرم! وأنكر عدم قنوت الإمام لإخوتنا في الدين في بلاد الرقراق! تعجب الأب من أسلوب ابنه! تعجب من مظهره الذي بدأ يتغير، فالشعر طال والثوب قَصر! وأصبح ينافس أمه على المكحلة! ويعتزل كل مجلس للعائلة! وهذه المرة لم يسكت أبومحمد بل أكمل النقاش المحتد، وارتفعت الأصوات، وخرجت الأم على وقع هذه الأصوات العالية، وأمسكت بمحمد كي تصرفه عن مواجهة أبيه، فلم تكن مواجهة الأب، ووضع العيون على العيون أمرًا مألوفاً في تلك الأجيال الخالدة! وتجاوز الأمر ذلك فدفع محمد بأمه فأسقطها على الأرض! نظرت إليه الأم في دهشة! وما كان منها إلا أن أجهشت بالنحيب والبكاء! فلم يتمالك الأب نفسه ولم يشعر إلا ويده تقع بكل قوة على وجه محمد، صاحب الدين الجديد! فنظر محمد إلى أبيه وأمه وأخيه وأخته ثم قال: أعوذ بالله من بيت تعشعش فيه المنكرات! فخرج بعدها ولم يعد.
توالت الأيام، وكان الأب ينتظر رجوع ابنه الذي لم يرجع، إلى أن أخمدت لوعة فراق السنين الجاريات، فلم يرجع محمد، ومات الأب والأم والأخت!
لم يرجع محمد فهو يرى أنه ذهب لبلاد الإسلام وترك بلاد الكفر!.. لم يرجع محمد ليرى كيف أصبح وجها أبويه أخاديد متعرجة من كثرة الدموع الجارية!
ها هو محمد يعود لكن بعد عودة جسد والديه إلى التراب!.. ها هو محمد يعود لكن بعد أن قشع النهار الساطع ظلمات ليل الجهل البهيم فما أن اقترب أحمد من الباب بعد أن جالت به أفكاره بعيدًا، إلا و سرت في جسده قشعريرة لم يدرك سببها سوى الخوف من هذا القادم الكبير مع محبته والشوق إلى لقائه، وبعد أن وقعت العينان على العينين، بدا وكأن لغة العيون عطلت لغة الكلام.. فهوى كل واحد منهما للآخر.. فلا تكاد تراهما إلا جسدًا واحدًا بروحين اثنتين.. يا لهذا المشهد.. يا لمعاني الأخوّة التي أحياها الله بعد أن أماتها الشيطان!
وضع محمد كلتا يديه على رأس أخيه يجره إليه.. ودموعه تخضب لحيته السوداء الكثيفة.
أيا أحمد: هل تظن بأنه يسامحني؟ وبأنهما يسامحاني؟
تعجب أحمد من سؤال أخيه! ثم رفع رأسه، وقال: أثق في الأول كثيرًا.. وأشك في الثاني كثيرًا.
أما الأول فهو الكريم المنان الرحيم الرحمن ستدركك رحمته بحوله وقوته.
أما الثاني فالله أعلم بأمرهما ولعلك تتدارك ذلك بالصدقة عنهما والدعاء لهما، فهما وإن رحلا غاضبين إلا أن قلوب الوالدين كبيرة رؤوفة رحيمة، ولو رحلا!
قال محمد: بإذن الله سأفعل.. سأراقبهما في كل موطن يحبانه فأفعله.. وكل موطن يكرهانه.. فاجتنبه.. سأتصدق عنهما وأدعو لهما ما كتب الله لي الحياة.. لعل في ذلك تكفيرًا وتمحيصاً.
أخي ماذا عنك؟
أنا أعيش في وِحدة منذ عشر سنوات، بعد وفاة أبينا وأمنا وأختنا فاطمة، لم يعد لي قريب أنتظره سواك، كان الأمل معقوداً بلقائك، كانت الأخبار تتوالى، كنت أخشى أن أسمع خبر وفاة محمد، منتحرًا أو مقتولاً أو متفحمًا، كنت أرى صورًا مروعة، فأقول: هل ذهب عقل محمد؟
أعرف أخي جيدًا، أعرف بذرته الصالحة، أعرف حبه للخير، لا يمكن إلا أن يعود، ويجلو بفطرته السليمة غبار الشبهة والشهوة التي ألمت به من ذلك الضيف الغريب..
قاطعه محمد: ماذا بشأن مصطفى؟
لقد طرده أهل القرية، ورفعوا أمره للوالي، فأخذ جزاءه، وتم تسفيره لدولته مخفورًا، هل تعلم بأنه أَضل عشرة من فتيان القرية غيرك، هل تعلم بأنه مكث سنوات في الخفاء يبدد كل ما عرفناه وتعلمناه من آبائنا وأجدادنا من سماحة ويسر ومحبة؟
كان يظهر محبة لعلماء القرية وفي الباطن يسومهم سوء العذاب من الكلام القبيح، كان وقوده الذي يشعل به نار حقده في ذلك الوقت هو أنتم معشر الفتيان، كان يربي فيكم كره القرية وأهلها، لما رآه من أمن وأمان فيها ورغدة في العيش والرزق، كان يرى أنه بلا عمل في دولته، بينما يتقاضى صغيرنا راتب الكبير فيهم!
كان يريد فوضى عارمة في القرية.. يريد أن لا يكون هناك والٍ يجتمع عليه أهل القرية.. يوحد صفوفهم ويقطع نزاعهم ويرص صفهم.. كان مدخولا بأفكار غريبة يريد أهل القرية أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم.. يريد أن يختاروا هم من يحكمهم.. والأمر فيها مستتب آمن!
يا أخي إن مصطفى يلبس ثياب التقوى زورًا! فهو ثعبان ماكر يخفي سمّه لينثره أول ما تسنح له الفرصة!.. هل تعلم بأن بعض فتيان القرية أمثالك رحلوا إلى بلاد الرقراق ليظفروا بالجهاد والحور العين بفتوى من مصطفى؟.. هل تعلم بأن أكثرهم مات مقتولاً أو منتحرًا من هول الصدمة التي رآها هناك، قالوا له جهادًا، فرأى اقتتالاً، قالوا له كفارًا.. فرأى افتتانًا! يقتل المسلم المسلم باسم الإسلام.. ويسبي امرأته باسم الإسلام.. ويذبحه كما تذبح الذبيحة وأيضا باسم الإسلام! رأى الضلال ملتحفا برداء الهداية، ورأى الفتنة والقتل في صورة الجهاد والشهادة.
أخي: كيف يكون الجهاد جهادًا والمتحاربون من المسلمين؟.. كيف يكون الجهاد جهادًا ولم يأمر به أمير المؤمنين؟.. كيف يكون الجهاد جهادًا ونتيجته دمار يلحق ببلاد المسلمين؟.
رفع أحمد رأسه وهو لا يزال يتحدث فرأى أخاه يبكي ثم يبكي ثم يبكي بكل حرقة وألم، ثم قال: صدقت يا أحمد في كل ما ذكرت، فكأنك حاضر معنا مشارك في كل أمورنا، سبحان من رجحك بعقلك.. ولقد أغواني الشيطان.. نعم لقد صدقت يا أحمد فلقد رأيت كذبًا في صورة الصدق.. رأيت جماعات متناحرة في صورة جماعات مجاهدة.. رأيت نساءً مكلومات.. رأيت صغارًا خائفين، يتامى ومكلومين.. رأيت شبابًا في زهرة العمر يدفعونهم للانتحار باسم الاستشهاد.. رأيت جهادًا في الصورة لكنه قتل ودمار في الحقيقة!.
ضم أحمد أخاه ثم قال: الحمدلله أن أعادك، وبصرك بالحق، وأبصرك الطريق، فكنت من قوافل العائدين بتوفيق الله أولا ثم بجهد العلماء والمصلحين من أبناء القرية وبمباركة ومؤازرة من والي المدينة الصالح.
** **
- أستاذ القانون الدولي بالمعهد العالي للقضاء