لا تخفى أهميَّة الحاسوب في ظلّ التَّطوُّرات الهائلة والتِّقْنِيات المُذهلة التي يشهدها العالَم اليومَ في مجالات الحياة شتَّى، ولا يتوارى ما لَه من أثرٍ في العلوم طُرًّا، ولا سيَّما الإملاء العربيّ الذي كان كِفلُه من هذه الآثار جَلَلًا، سواءٌ أكان ذلك على المستوى الخطِّيّ الجماليّ أم على المستوى الرَّسميّ القياسيّ. ومن جملة هذه الآثار ما وسمناه بالفراغ الإملائيّ، ذلك الفراغ الذي يتحقَّق بضغطةِ زرِّ المسافة (space) في لوحة المفاتيح (keyboard) بين آحاد النَّص من الكلمات وعلامات التَّرقيم؛ لما له من أهميَّة في إضفاء الجمال والبهاء والرَّتْل وحُسن التَّنسيق والوضوح على الكتابة من جهةٍ، وما يُورثه إهمالُه من التَّعقيد وسوء الفهم والغموض، والتَّداخل بين الكلمات والجمل، والتصاق بعضها ببعض من جهةٍ أخرى. وسنُتبع هذا التَّأسيس والتَّأصيل فيه -إن شاء الله عزَّ وجلّ، ونسأ في العُمر والأجل- بتطبيقٍ يؤكِّدُ هذا المفهوم، ويُنبئ بأثره في قواعد الإملاء، واختلاف العلماء والدَّارسين في شأنه؛ لعلَّه يكون نبتةً فيحديقة العربيَّة الغنَّاء، فتُلفِيَ سُقاتَها يومًا ما.
المسألة الأولى: حُدودُه
أولاً- الفراغُ في دائرة اللُّغة والاصطلاح
«فَرَغ يَفْرغَ، ويَفْرُغ، فراغًا وفُروغًا: وفَرِغَ يَفْرَغ، وَفِي التَّنْزِيل: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} [القصص: 10]، أَي: خَالِياً من الصَّبْر... وفَرَغ الرجلُ: مَاتَ، مثل: قَضى، على الْمثل، لِأَن جِسْمه خلا من رُوحه. وإناء فُرُغٌ: مُفَرَّغ. وقَوْس فُرُغ، وفِرَاغ: بِغَيْر وتر، وَقيل: بِغَيْر سهم. وناقة فرَاغ، بِغَيْر سَمة»(1). وفرغَ الشيءُ: خلا ممَّا كان يشغُلُه. والفراغُ: الخُلوُّ والمكانُ الخالي(2).
وحدَّد الدُّكتور محمد حسن جبل المعنى المحوري لـ(فرغ) بـ«خلاء الظُّروف ونحوها ممَّا يشغلها مِن مائع ونحوه: كالأرض المجدبة والأنية، والأودية... فهي أحيازٌ خاليةٌ (مهيّأةٌ لتحوز الموائع وما إليها)»(3).
يظهرُ ممَّا تقدَّم أنَّ الفراغَ في اللُّغة هو الخلو والشُّغور من كُلِّ ما يشغلُ حيِّزًا.
أمَّا في الاصطلاح فيُحدُّ بأنَّه «حيِّزٌ بلا مادَّةٍ»(4). ويحدُّه أهلُ الفيزياء بـ«حيِّز خالٍ من المادَّة بصورها الثَّلاث أو حيِّز أُزيل ما به من هواء»(5). والفارغ: الخالي من الكتابة أو الصُّور أو العلامات(6).
بناءً على ما سبقَ يمكننا أن نُعرِّفه بصفته مصطلحًا إملائيًّا بأنَّه (المساحة الخالية من الكتابة في النَّص العربيّ).
ثانيًا - الإملاء في دائرة اللُّغة والاصطلاح
الإملاء مصدرٌ من الفعل أملى يُملي إملاءً، ويقال فيه أيضًا: أملَل يُمللُ إملالًا، قال الفيُّومي: «وَأَمْلَلْتُ الْكِتَابَ عَلَى الْكَاتِبِ إمْلَالًا أَلْقَيْتُهُ عَلَيْهِ وَأَمْلَيْتُهُ عَلَيْهِ إمْلَاءً وَالْأُولَى لُغَةُ الْحِجَازِ وَبَنِي أَسَدٍ، وَالثَّانِيَةُ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ وَقَيْسٍ وَجَاءَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ بِهِمَا?وليُملِلِ الذي عليه الحقُّ? [البقرة: 282]? فهي تُملَى عليه بُكرةً وأصيلًا? [الفرقان: 5]... وَمَلَأْتُ الْإِنَاءَ مَلْئًا مِنْ بَابِ نَفَعَ فَامْتَلَأَ وَمِلْؤُهُ بِالْكَسْرِ مَا يَمْلَؤُهُ وَجَمْعُهُ أَمْلَاءٌ مِثْلُ حِمْلٍ وَأَحْمَالٍ»(7).
ويدور المعنى المحوري للجذر اللُّغوي (ملأ) حول «تجمُّع الشَّيء في أثناء ظرف حتى لا يبقى في الظَرف فَرَاغ (شَغل كل فراغ الظَرْف بمادة) كالحُب الملآن والقِربة الملآى»(8).
يتحصَّل ممَّا تقدَّم أنَّ الإملاء خلاف الفراغ، فيتضادُّ في الاقتران بينهما مفهومُهما اللُّغويّ، ويتوافقُ مدلولهما الاصطلاحي معًا، وفي هذا من الجمال واللَّطافةِ ما لا يخفى!
أمَّا في الاصطلاح فتتَّفق كلمةُ علماءِ الكتابة على أنَّ الإملاء أيًّا كان المصطَلح المدلول عليه من الرَّسم والخطّ والهجاء والكتابة والكَتْب وتقويم اليد والكتاب ونحوها، هو تصويرُ اللَّفْظ بحروف هجائه مَعَ تَقْدِير الِابْتِدَاء به وَالْوَقْف عليه(9). ولا يكادُ يخرجُ مفهومُ تعريفاتِهم له عن ذلك، مهما تعدَّدَ المصطلحُ الدَّالُّ عليه.
ثالثًا- الفراغ الإملائيّ في دائرة الاقتراح
بناءً على أنَّ المصطلح وليدُ التِّقْنيَّة الحديثة، يتعذَّر علينا أن نجدَ له حدًّا -فيما نظنٌّ- في المصادر والمراجع المعنيَّة؛ فلَزِمَ الاجتهادُ في بيانه ووضعِ تعريفٍ له، يَجمعُ أفرادَه، ويَمنعُ أغيارَه.
وبعد النَّظر والتَّأمُّل في المعاني اللُّغويَّة والاصطلاحيَّة لكلِّ مُفردةٍ مِن جُزأي هذا المصطلح، واستقراءِ مواضعه، ارتأينا أن نعرِّفه علميًّا، بصفته مُصطلحًا أولًا، وعمليًّا على وَفق حاجتنا إليه في تطبيقاتنا ثانيًا، أمَّا الأول فنقتر حُ الآتيَ في حِّده:
(الفراغ الإملائيّ: هو الشُّغورُ المِطبَعيُّ المتروكُ بينَ آحادِ النَّصِّ العربيّ).
فقولنا: (الشُّغور) جنسٌ يشملُ كلَّ الفراغات.
و(المِطبَعيّ) وصفٌ للشُّغور بالذي يتحقَّق بالآلةِ الطابِعة؛ وقيدٌ يَخرُجُ به الشُّغورُ الخطيُّ اليدويُّ؛ لأنَّه لا ينضبطُ مقدارُه، ويتفاوت من خطٍ إلى آخرَ، فلا يُعلَمُ أفُرِغَ ما بين اللَّفظينِ أم لم يُفرَغ.
و(المتروك) قيدٌ للشُّغور المطبعيِّ؛ للدَّلالة على أنَّ المقصودَ هو ما يكون باختيارنا وتركنِا إيَّاه؛ فيُحتَرَسُ به عن الشُّغور الوجوبي الاضطراريّ الذي يكون بعد حروف الفصل (زُر ذا وُدٍّ) في الأسماء المفردة أو المركَّبة؛ لتعذُّر اتصال هذه الحروف بما بعدها، فلا ينضوي الشُّغورُ في نحو: مريم، وحضرموت، تحت مفهوم الفراغ الإملائي؛ لأنَّه ليس لنا اختيارٌ فيه، ولم تكن لنا إرادةٌ في تركِه.
و(بين) قيدٌ في بيان مَحِلّ الشُّغور، أخرجَ ما عداه، وليس المقصود بـ(بين) هنا البينيَّة من كلِّ الاتجاهات، وإنَّما المقصودُ البينيَّةُ على التَّجاور الاُفقيّ؛ لئلا يدخل تحت مفهومِ الفراغِ الإملائيِّ الشُّغورُ بين الأسطر والفِقْرات، فذاك أمرٌ يؤول إلى شأن المطابع وعُرف أهلِ الطِّباعة.
و(آحاد النَّص) قيدٌ يُخرَجُ به شيئان:
الأوَّل: ما ليس جزءًا من النَّص، كشُغور الهوامش العُلوية والسُّفلية واليُمنى واليُسرى.
والثَّاني: الشُّغور بين شطرَي البيت الشِّعريّ؛ لأنَّه بين صدره وعجُزه لا بين آحاده، فيُترَكُ مقدارُه لذَّوق الكاتب وعُرف الطِّباعة. وإيرادنا لـ(آحاد النَّص) بدلًا عن (كلمات النَّص)؛ ليُشمَل شُغورُ علاماتِ التَّرقيمِ السَّابِقُ أو اللَّاحِقُ.
و(العربيّ) وصف للنًّص، يُخرِج النُّصوصَ غيرَ العربيَّة؛ إذ لكلِّ لُغةٍ قواعدُها وضوابطها في معايير ما يُترك بين آحاد نصوصها في الرَّسم والإملاء.
واتْباعُنا إيَّاه -أي: الفراغ- بـ(الإملائيّ)؛ فصلٌ وتمييزٌ له عمَّا يشاركه في جنسه، ومُخرجٌ ما عداه مِن الفراغات.
وأمَّا حدُّه العمليّ التَّطبيقيّ فنقترح فيه ما يأتي:
(الفراغ الإملائي: هي الضَّغطة الواحدة على زرِّ المسافة space فيلوحةالمفاتيح keyboard بين آحاد النَّص من الكلمات وعلامات التَّرقيم).
المسألة الثَّانية: نظائره
تُشارِكُ الفراغَ في التَّمثيل العام لمعناها الذي نرومه في هذه المقالة، في التُّراثِ الإملائي العربيّ نظائرُ أُخرى، تتداخل معها في الدَّلالة بوجهٍ ما، وتجانبُها في وجوهٍ أُخَرَ. فنجدُ أنَّ المصنَّفاتِ الإملائيَّة التي تناولت هذا الموضوع جَنحَت إلى استعمال لفظَة الفصل مُذيَّلةً بلفظة الوصل، (الفصل والوصل) (10)، أمَّا كُتُب الرَّسم فاصطلح أصحابُها على وسم الموضوع بالمقطوع والموصول(11).
ارتأينا أن نُعرِّج إليهما، ونُلقيَ الضوءَ عليهما، ونُحلِّلَ مضامينَهما؛ لتتَّضحَ وِجهةَ اختلاف مصطلح الفراغ عنهما؛ فيَبينُ إعراضُنا عنهما، واستبدالُ الفراغ بهما.
أولاً - الفصل
قال ابن فارس: «الفَاءُ وَالصَّادُ وَاللَّامُ كَلِمَةٌ صَحِيحَةٌ تَدُلُّ عَلَى تَمْيِيزِ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ وَإِبَانَتِهِ عَنْهُ. يُقَالُ: فَصَلْتُ الشَّيْءَ فَصْلًا. وَالْفَيْصَلُ: الْحَاكِمُ. وَالْفَصِيلُ: وَلَدُ النَّاقَةِ إِذَا افْتُصِلَ عَنْ أُمِّهِ. وَالْمِفْصَلُ: اللِّسَانُ، لِأَنَّ بِهِ تُفْصَلُ الْأُمُورُ وَتُمَيَّزُ»(12).
وقد حدَّدَ الدُّكتور محمد حسن جبل المعنى المحوري للفصل بقوله: «تميُّز الشَّيء عن غيره مع تمامٍ أو ما هو من بابه: كتميّز كلٍّ من عُضْويَ المَفْصِل، وكلٍّ من أعضاء الجَزور، وفي تَفْصِل الخَرَزة بين اللؤلؤتين. ومنه تفصيل الشيء: تبيينه، جعْله فصولًا متمايزة (تمييز أجزائه وتوضيح جزئياته)»(13).
أمَّا في الاصطلاح الإملائي فيعني الفصل:كتابة الكلمة مستقلَّةً عمَّا قبلها وما بعدها(14). فضلاً عن كونه مُصطلحًا ينازعه عِدَّةُ علومٍ، ففي النَّحو يعني القطع بين المتَّصلين كالمتضايفين، والصِّفة مع الموصوف، والفعل مع الفاعل، والمبتدأ مع الخبر، وما هما كالجزء الواحد، أو في منزلة الواحد من حيث تلازمهما. إضافة إلى أنَّه ضمير من الضَّمائر المنفصلة يدخل بين المبتدأ والخبر وما كان أصلهما كذلك(15). وفي الأدب يُعدُّ أحد الأقسام الرَّئيسة في المسرحيَّة(16). وفي العَروض علةٌ تقتضي حذف ساكن الوتد المجموع وإسكان ما قبله(17). وفي البلاغة ترك عطف الجملة على غيرها بالواو(18).
ثانيًا - القطع
قال ابن فارس: «القَافُ وَالطَّاءُ وَالْعَيْنُ أَصْلٌ صَحِيحٌ وَاحِدٌ، يَدُلُّ عَلَى صَرْمٍ وَإِبَانَةِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ. يُقَالُ: قَطَعْتُ الشَّيْءَ أَقْطَعُهُ قَطْعًا. وَالْقَطِيعَةُ: الْهِجْرَانُ. يُقَالُ: تَقَاطَعَ الرَّجُلَانِ، إِذَا تَصَارَمَا. وَبَعَثَتْ فُلَانَةُ إِلَى فُلَانَةَ بِأُقْطُوعَةٍ، وَهِيَ شَيْءٌ تَبْعَثُهُ إِلَيْهَا عَلَامَةً لِلصَّرِيمَةِ. وَالْقِطْعُ، بِكَسْرِ الْقَافِ، الطَّائِفَةُ مِنَ اللَّيْلِ، كَأَنَّهُ قِطْعَةٌ. وَيُقَالُ: قَطَعْتُ قَطْعًا. وَقَطَعَتِ الطَّيْرُ قُطُوعًا، إِذَا خَرَجَتْ مِنْ بِلَادِ الْبَرْدِ إِلَى بِلَادِ الْحَرِّ، أَوْ مِنْ تِلْكَ إِلَى هَذِهِ»(19).
ويدور المعنى المحوري للقطع حول «فصل بعض الجرم الممتد الملتحم الرَّقيق عَنْ بعضه شقًّا: كقطع الغصن واليد»(20).
أمَّا في اصطلاح علماء الرَّسم فالقطع: مصطلحٌ يُستعملُ في للدَّلالة على ما يستقلُّ بالكتابة عمَّا قبلها وبعدها(21). إضافةً إلى أنَّه كنظيره «الفصل» مشتركٌ بين عدَّة علوم، ففي القراءات يعني الوقف أو السَّكت(22). وفي النَّحو فصل النعت عن اتباع منعوته في الإعراب وحركاته. وفي الصَّرف المهموز من الأفعال الصَّحيحة(23).
المسألة الثَّالثة: معاييره
يتحدَّد معيار الفراغ الإملائيّ الذي نقصده ههنا بما يضبطه ويجعله مقيَّدلاً مطلقًا كيفما جاء واتَّفق، ويمكننا أن نحصر ذلك فيما يأتي:
أولاً: المعيار الآليّ: نعني به الضَّغطة الواحدة على زِرِّ المسافة، المسطرة space في لوحة المفاتيح keyboard.
ثانيًا: المعيار القياسيّ: هو الشُّغور الذي يكون بمقدار حرف واحد، أي: مايمكن كأنت شغله بحرف واحد؛ بناءً على أنَّ الحرفَ أصغرُ وحدة لغويَّة كتابيَّة تتكوَّن منها الكلمة؛ وذلك قياسًا على دلالة الفراغ اللُّغويَّة على خلوّ الشَّيء ممَّاكان يشغله، وإزالته عنه، وتهيئته للحوز، فشغله يكون بما فرغ وخلا منه. فكلُّ فراغ يُقدَّر بأقلَّ أو أكثرَ ممَّا يقتضيه هذان المعيارانِ هو خارجٌ عن حدود مفهوم الفراغ الإملائيّ المروم في هذه المقالة.
المسألة الرَّابعة: خصائصه
يختصُّ مصطلح (الفراغ الإملائيّ) بمزايا وخصائص، تُسوِّغُ لنا إيثارَه على نظيرَيه: الفصل والقطع، يمكننا إجمالها فيما يأتي:
1. الاختلاف الدَّلاليّ، المتمثَّل بالشُّغور المتحقّق في آلة الحاسوب بضغطة واحدة على زِرِّ المسافة space. أمَّا مصطلحا الفصل والقطع فلا يُعنى بهما غير ترك وصل الحروف بعضها ببعض, ولا يقُصَدُ بهما تلك الفسحة المتأتِّية من هذه الضَّغطة المعقودة عليها هذه المقالة.
2. العلاقة بينه وبين نظيرَيه علاقة العموم والخصوص المطلق، يشترك معهما في مواضعَ، وينفردُ عنهما في أُخَرَ، فكلُّ فصلٍ وقطعٍ فراغٌ وليس كلُّ فراغٍ فصلٌ وقطعٌ، فالفراغ أعمُّ منهما؛ لاختصاصه بما يتحقَّق على الآلة الطَّابِعة من جهةٍ، وبما يكون قبل علامات التَّرقيم أو بعدها من المسافاتِ من جهة أخرى.
3. إنَّ مفهومَ الفراغ الذي قدَّمناه منضبطٌ في طريقة تركه ومقدار مسافته؛ لأنَّه وليدُ العصر، ونِتاجُ التِّقْنِيَة الحديثة، وأثرٌ من آثار الكتابة الحاسوبيَّة في الإملاءالعربيّ، فهو يختلف عن نظيرَيه في أنهما يُقصَدُ بها عدم التصاق الكلمة الأولى بالكلمة الثانية كيفما كانت طريقة ترك المسافة بيهما، ومهما كان مقدارها.
4. مُستوفٍ لشروط المصطلح الآتية(24):
* وحدة الدَّلالة، أي: الاشتراك والمناسبة والمشابهة بين مدلوله اللُّغوي ومدلوله الاصطلاحي الجديد، فنجد معانيَ الخُلوِّ والمسافة الشَّاغرة حاضرةً في الاستعمال الجديد الذي أُطلِق عليه. في حين نجد أنَّ تحقُّقَ الدَّلالة اللُّغويَّة لكلٍّ من الفصل والقطع غير مطَّردٍ مع مدلولهما الاصطلاحي الإملائي؛ إذ يُعَدُّ مثلُ: حضرموت، متَّصِلًا اصطلاحًا، على الرَّغم من وجود الفصل أو القطع بين جزأيه!
* وحدة الدَّال، أي: ليس له مُترادفٌ يُستعمَل معه في الدَّلالة نفسها. أمَّا الفصل والقطع فنجدُ أنَّ كلًّا منهما مرادفٌ للآخر، يُزاحمه في الاستعمال عينه.
* وحدة المدلول، أي: ليس مُشتركًا لفظيًا يُطلَق على أكثر من مفهوم، على العكس من الفصل والقطع اللَّذَين يشتركان في عدَّة علوم، كالنَّحو والصَّرف والأدب والعروض والبلاغة والقراءات، كما أسلفنا بيانَ ذلك. فيُطابقُ الفراغ الإملائيّ بذلك شرطَ المصطلح العلمي الذي ينصُّ على ألَّا يُطلَق المصطلحُ على أمرين أو مفهومين مختلفين أو أكثر(25). وهذا يعني «الاكتفاء بلفظة واحدة للدَّلالة على معنى علميّ واحد»(26). فيؤمَنُ به اللَّبسُ ويُمنَعُ التَّداخلُ، وهو ما يفتقر إليه نظيراه الفصل والقطع.
5. قصيرٌ ومختصَرٌ ومُوجزٌ. أمَّا الفصل والقطع فلا يُستعملان في الدَّلالة على ما يدلُّ عليه مصطلح (الفراغ الإملائي) إلا مركَّبَين مع لفظة الوصل وحرف العطف (الواو)، فيقال: الفصل والوصل، والقطع والوصل.
6. دقيقٌ في المعنى الموضوع له؛ لأنَّه لا يُعنى إلا بتلك الفجوة والمساحة المتروكة بين أجزاء النَّصِّ من غير مُلاحظة ما سبقَ أو ما لحِق، تلك الملاحظة التي تُرى بوضوحٍ في كلٍّ من مصطلَحَي الفصل والقطع.
7. إنَّ مصطلحَي الفصل والقطع غيرُ مانعَينِ من دخول ما ليس بداخل تحت مفهومها اللَّغويَّ، فنجدُ من مصاديقهما اللُّغويَّة ما لا يصدق عليه المصطلح، فعلى سبيل المثال يَعدُّون نحو: (حضرموت)، و(عبدالله) من الوصل لا الفصل أو القطع، على الرَّغم من عدم الاتِّصال بين نهاية الجزء الأول وبداية الجزء الثَّاني في كلٍّ منهما. أمَّا الفراغ الإملائي فمعاييره منضبطة، فلا يتواردُ عليه مثلُ هذه الملاحظات التي ينبغي أن تُراعى وتُؤخَذ في النَّظر عند وضع المصطلحات وحدودها.
8. ولعلَّ خصَّ المفهوم الجديد الذي هو نِتاج التِّقْنِية الحديثة بمصطلحٍ جديدٍ يناسبه ويلائمه، والإبقاء على القديم قديمَه، أنجعُ من الرُّكون إلى إضافة هذا المفهوم إلى مصطلح قارٍّ في علمٍ ما وتحميله إيَّاه؛ لأنَّ ذلك آمَنُ للَّبس والتَّداخل، وأدفَعُ للازدواجيَّة والتَّشويش على المتلقِّي.
المسألة الخامسة: أنماطه
أولاً - الفراغُ الإملائيّ تبَعًا لنوعه
1- الفراغ الكلِميّ: هو الفراغُ الذي يكون بين أنواع الكَلِم. وصُوَره:
* الفراغ بين حرفٍ (27) وحرفٍ.
* الفراغ بين حرفٍ وفعلٍ.
* الفراغ بين حرفٍ واسمٍ.
* الفراغ بين فعلٍ وفعلٍ.
* الفراغ بين فعلٍ واسمٍ.
* الفراغ بين اسمٍ واسمٍ.
2- الفراغ التَّرقميّ: هو الفراغُ الذي يكون بين أشكال علاماتِ التَّرقيم. نحو: قال: «أنا ناجح». فتُراعى في كلِّ علامةٍ قاعدتها، فالنّقطتان(:) فراغها بعديٌّ، والتَّنصيص (« «) فراغها قبليٌّ، والنقطة (.) فراغها بعديٌّ. وهلمَّ جرًّا.
3- الفراغ الكلميّ التَّرقيميّ: هو الفراغ الذي يكون بين الكلمة من جهةٍ، وعلامة التَّرقيم من جهةٍ أخرى. ويُراعى هذا النَّوع على وفق ما في الفقرة الآتية.
ثانيًا - الفراغُ الإملائيّ تبَعًا لموضِعه
1. الفراغ القَبْلِيّ: هو الفراغ الذي يكون قبل علامات التَّرقيم من أجزاء النَّصِّ. أي: بين الكلمة والعلامة التي تليها، والعلامات التي يكون الفراغ قبلها هي الأقواس بجميع أنواعها: الهلالان( )، وعلامتا التَّنصيص» «، والمعقوفان [ ]، والمزهَّرتان { }، وعلامتا الاعتراض (- -). فيكون الفراغ قبل العلامة، ولاتُترَك مسافة بعد قوس الفتح (الأول) ولاقبل قوس الغلق (الثاني؛ لأنَّماد إخلال قوسين يكون مُلتصقًاب القوسين دون أن يكون هناك فراغٌ بين القوس والذي بداخله، ومثله الأقواس الأخرى، وعلامتا الاعتراض.
2. الفراغ البَعديّ: هو الفراغ الذي يكون بعد علامات التَّرقيم من أجزاء النَّصِّ.أي: بين العلامة والكلمة التي تليها، والعلامات التي يكون الفراغ بعدها لا قبلها هي: الفاصلة (,)، والفاصلة المنقوطة(؛)، والنقطة(.)، وعلامة الحذف (...)، والنقطتان (:)، والشَّرطة (-)، والخط المائل (/)، وعلامة الاستفهام (؟)، وعلامة التعجّب (!).
ثالثًا - الفراغ الإملائيّ تبَعًا لتحقُّقه
1- الفراغ الواجب: هو الفراغُ الذي يمتنعُ إشغالُه. وله صورتان:
* الفراغ قبل ما يصحُّ الابتداء به.
* الفراغ بعد ما يصحُّ الوقوف عليه.
2- الفراغ الممتنع: هو الفراغُ الذي يجب إشغالُه. وله صورتان:
* قبل ما لا يصحُّ الابتداء به. ومن أمثلة ما يمتنع الفراغ قبله: نونا التَّوكيد، وتاء التَّأنيث، وكاف الخطاب، وعلامات التَّثنية والجمع، والضَّمائر المتَّصلة.
* بعد ما لا يصحُّ الوقوف عليه. ومن أمثلة ما يمتنع الفراغ بعده: صدر الأعلام المركبة تركيبًا مزجيًّا، نحو: بَعْلَبَكّ، وسيبويه. وما رُكِّب من الظروف مع (إذ) المنوَّنة، نحو: حينئذٍ، ويومئذٍ. واو العطف. وغير ذلك.
3- الفراغ الجائز: هو الفراغُ الذي يجوز إشغالُه وإشغارُه بلِحاظين مُختلفين، بينَ جزأي ما يصحُّ الابتداءُ به والوقوف عليه إفرادًا وتركيبًا. وضابطُه «كلُّ كلمةٍ تُرسَمُ مُنفصلةً، فإذا وُضِعتْ بجانب كلمةٍ أُخرى تستقلُّ بنفسها أيضًا، اتَّصلَتا وكوَّنَتا تركيبًا جديدًا يستقِلُّ بنفسه»(28). وقد كفانا كتبُ الإملاء مؤونةَ بيان ذلك وتفصيله.نورده مقتصرين على مواضعه فيما يأتي:
* الفراغ بين «ما» وما قبلَها.
* الفراغ بين «لا» وما قبلَها.
* الفراغ بين «مَن» وما قبلَها.
* الفراغ بين الظروف و»إذ».
* الفراغ بين الأعداد و»مئة».
* الفراغ بين «ها» التنبيه وأسماء الإشارة.
* الفراغ بين «حبَّ» وفاعلها.
... ... ... ... ...
الهوامش:
(1) المُحكم والمحيط الأعظم: 5/504.
(2) انظر: معجم متن اللُّغة: 4/ 39، والمعجم الوسيط: 2/684.
(3) المعجم الاشتقاق يالمؤصَّل لألفاظ القرآن الكريم: 3/1663.
(4) الموسوعة العربيَّة الميسَّرة: 1279.
(5) (6) معجم اللُّغة العربيَّة المعاصرة: 3/1697.
(7) المصباح المنير:2/580.
(8) المعجم الاشتقاقي المؤصّل لألفاظ القرآن الكريم:5/2111.
(9) انظر: الشَّافية في علم التَّصريف: 138، وهمع الهوامع: 3/500، والمطَالِعُ النَّصرية: 39.
(10) انظر: المطَالِعُ النَّصرية: 39، وانجلاء السَّحابة عن قواعد الإملاء وأُصول الكتابة: 62، والمفرد العَلَم في رسم القلَم:62، والإملاء والتَّرقيم في الكتابة العربيَّة: 85، والضِّياء في قواعد الإملاء والتَّرقيم: 103، والمجمل في الإملاء:61، والإملاء العربي نشأت هو قواعد هو مفرداته وتمريناته: 84، وصوي الإملاء:137، وكتاب الإملاء: 141، وقواعد الإملاء: 54، وعِلم الكتابة العربيَّة:171.
(11) انظر: المُقنِع فيرسم مصاحف الأمصار: 73، وسمير الطَّالبين:66.
(12) معجم مقاييس اللُّغة: 4/505.
(13) المعجم الاشتقاقي المؤصّل لألفاظ القرآن الكريم: 3/1678.
(14) انظر: المعجم المفصَّل في الإملاء: 249.
(15) انظر: مُعجم المصطلحات النَّحويَّة والصَّرفيَّة: 173.
(16) (17) (18) انظر: معجم المصطلحات العربيَّة في اللُّغة والأدب: 274، 295.
(19) معجم مقاييس اللُّغة:5/101.
(20) المعجم الاشتقاق يالمؤصّل لألفاظ القرآن الكريم: 4/1805.
(21) انظر: الـمُقنِع فيرسم مصاحف الأمصار: 73.
(22) انظر: النَّشر في القراءات العشر:1/239، 267.
(23) انظر: معجم المصطلحات العربيَّة في اللُّغة والأدب: 188.
(24) انظر: مُقدِّمة فيعلم المصطلح: 5، وفي المصطلح النَّقديّ: 8.
(25) انظر: الأُسس اللُّغويَّة لعلم المصطلح:12.
(26) في المصطلح النَّقديّ: 8.
(27) المقصود بالحر وففيه ذا البحث حروف المعاني لاالمباني بشرط أن يكون مبناه على حرفينِ أو أكثر.
(28) أُصول الكتابة العربيَّة: 125.
** **
صفاء صابر مجيد البياتي - العراق - كركوك