الطفولة.. ذلك المعينُ الذي لا نزال نستقي منه ونرتاضُ رياضَه، ويبقى الفرد منا إنسانًا حيًّا بقدر ما بقي في قلبه من آثار الطفولة.. فيالله! كم جعل الله في تلك المرحلة من دفقات الصدق، ورفرفات البراءة، وصفحات النقاء! ويا لله! كم عشنا بها عمرًا مرّ كنهار عصفور، ما بين غدوته وروحته، ملأه تغريدًا ولعِبًا ومناغاةً للطيور، وعاد إلى عشِّهِ عشيَّةً فنام.. ثم استيقظ فإذا هو كهلٌ يُطعم أفراخَه، وإذا هو يقضي نهاره في سعيٍ دائبٍ وراء لقمةِ عيشهم، فهو يرى فيهم كلَّ أفراحه، ويستعذب من أجلهم أُجاجَ النَّصَب! وقد صار ذلك الأمس القريب من روحه، البعيد من واقعه، ذكرى لم يبقَ له من أفراحها إلا ما يحكيه لصغاره فيطربون، فيُسَرّ بسرورهم..
ارتبطَ جزءٌ صغيرٌ من ذاكرته بالحرب.. ماذا تفعل الحربُ بالطفولة؟ لم يعرف ذلك الطفلُ جوابَ هذا السؤال على وجه الدقّة بطبيعة الحال، وإن عرفه فيما بعد، لكنه عاش شيئا من آثار الحرب، تمثَّلَ في ذلك الرّعب الذي تغشّاه مِرارًا كلما دقّت صافرةُ الإنذار إبّانَ حرب الخليج الثانية، عبر شاشة التلفزيون، فركض بفطرته إلى قلب أمّه المرتعشِ أيضًا، يبحث فيه عن الأمان. يفعل ذلك مع أنه لم يتناهَ إلى سمعه دوِيُّ الانفجارات، ولا أزيز الطائرات، ولا قصف المدافع.. فهو يتساءل الآن: أيُّ رعبٍ عايشه أولئك الأطفال الذين كانوا في بؤرة الصراع، وكم دمعت عيناه وهو يرى أطفالا قُذفَ بهم في أتونِ حروبٍ طاحنة، وقد عُجّل إليهم عناءُ الدنيا ولمّا يتذوقوا ألذَّ مراحلها!
من حسن حظه أنه لم يعرف من الحرب في ذلك العمر إلا اسمَها، ولم يرَها رأيَ العين، ولم يعايش أهوالَها كما عايشها الأديب الراحل: عزيز ضياء -عليه رحمة الله- زمانَ الحربِ العالمية الأولى، فحكاها في كتابه الرائع (حياتي بين الجوع والحب والحرب) بإحساسِ الطفل، وخفقاتِ قلبه، بحروفٍ تقطرُ روعةً وجمالًا، وإن كانت تنوء حزنًا وألمًا، وتستدرّ المدامع من القلوب الصلدة !
إنَّ صاحبنا ليتجوّل الآن في ذاكرته، أو في الجزء الأثير منها، المتعلق بالطفولة، في سنواتها الخمس الأولى، فيقع على ذكرى طريفة، وإن كانت مُريعةً في حينها، حيث تدلّى أحدُ رفاقه الصغار في خزان ماءٍ نصفِ ممتلئ، بطول وعرض متر مربع، بحثًا عن لعبة سقطت فيه، فمدَّ يده ليتناولها فلحِق بها ! فكاد يموت اختناقًا، وفزع الطفلُ إلى أمِّ رفيقه، وهرعت الأم المسكينة وقلبها يسابقها إليه، فانتشلته من الخزّان وهو يلتقط أنفاسَه.. ذلك الطفل هو الآن رجلٌ كبير، يُحاذر من أن يُلاحق بعض آمالِه الكبيرة أيضًا، خشيةَ أن يختنق في قعرها، كما اختنق صاحبه !
ويُكمل جولته في جَناح الطفولة من ذاكرته، فيقف على حادثةٍ رأى فيها كيف يكون نُبلُ الأصدقاء، فقد أُصيبَ -أيام دراسته الابتدائية- بمرض الحصبة، فانقطع عن المدرسة، ورسائلُ زملائه تصله عبر أحدهم، وهو طريح الفراش، يتقلّب في معاناته وأوجاعه، فيفتح رسائلهم بكل شغفٍ وحب، ويقرأ كلماتهم فكأنما هي رشَفَاتٌ من دواء، خلت من مرارة الدواء ولم تخلُ من شفائه ! فما أبلغ تلك الرسائل في عينيه، وما أوقعها وأمتعها في فؤاده ! وكم يتمنى الآن - وهو يفيض بهذه الذكريات- أن يقرؤوا رسالته هذه، وأن يجدوا فيها شيئا مما كان يعجز عن التعبير عنه في طفولته، أمامَ موقفهم النبيل.
** **
- منصور بن إبراهيم الحذيفي