ارتبط تراثنا البلاغي العربي بدراسة القرآن الكريم وبيان إعجازه، ولهذا ظهر اهتمام عدد كبير من كتب التفسير بدراسة البلاغة القرآنية كما هو معروف عن الزمخشري وشرّاح تفسيره. وتعتمد الطريقة التي سار عليها المفسِّرون في دراسة البلاغة القرآنية بأن يقف المفسِّر عند آيات القرآن متسلسلة، فيدرس كل آية على حدة ليبين معناها ومراد الله تعالى بها، متناولاً في ثنايا ذلك ما فيها من وجوه البلاغة والبيان. وقد أثَّر هذا النهج على طرق دراسة البلاغة القرآنية عند عدد من باحثي البلاغة القرآنية، وذلك عندما يقوم الدارس البلاغيّ بمحاكاة صنيع المفسرين فيعمد إلى تحليل المواضع البلاغية في الآيات المدروسة حسب تسلسلها في المصحف، وهو ما يمكن تسميته بـ (البلاغة التحليلية). هذا الجهد البلاغي التحليلي رغم قيمته وأهميته إلا أنه لا يضع المواضع البلاغية المدروسة ضمن منظومة مترابطة، أو في سياق جامع، فلا جامع يربط بين تلك المواضع البلاغية المذكورة إلا السورة التي ضمّتها أو تسلسل الآيات.
وقد حاول بعض المعاصرين الاهتمام بدراسة القرآن بلاغياً مع التأكيد على ضرورة وجود رابط معنوي بين الآيات المدروسة، وهو ما يظهر في تلك الدراسات التي انطلقت من وحدة الموضوع في التناول البلاغي والأدبي للقرآن. وهذا هو ما أشار إليه وطالَب به الأستاذ أمين الخولي بشكل نظري في كتابه (مناهج تجديد)، ثم حاول تلاميذه من بعده تطبيق ذلك، مثلما فعل د.شكري عياد في أطروحته للماجستير التي أشرف عليها الأستاذ أمين الخولي نفسه، وكانت بعنوان: (من وصف القرآن يوم الدين والحساب)، وقد طُبعت هذه الأطروحة في كتاب لم يكن شكري عياد راضياً عنه كل الرضا - كما يقول في مقدمة الكتاب - إلا أنه قرّر نشره بسبب حاجة الحياة الثقافية إلى التفسير الأدبي للقرآن. وكذلك فعلت د.عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) -تلميذة أمين الخولي وزوجه- في كتابها (التفسير البياني)، حيث حاولت الاستفادة من فكرة وحدة الموضوع القرآني في الدراسة البلاغية، فخصَّت بدراستها البلاغية تلك السور التي يحضر فيها موضوع واحد كما تذكر في مقدمة كتابها. وهؤلاء قد قاموا بلا شك بجهد طيب في دراسة بلاغة آيات القرآن ذات الموضوع الواحد، ولكنهم غفلوا -حسب وجهة نظري- عن خطوة مهمة بلاغيًا، وهي الكشف عن ارتباط الشكل البلاغي بالموضوع القرآني.
وفي السياق ذاته أتذكر قبل عقدين من الزمن أثناء دراستي للماجستير ظهور توجُّه محمود في عدد من الأطروحات العلمية آنذاك نحو دراسة بعض الموضوعات القرآنية دراسة بلاغية، حيث كانت تلك الدراسات تختار موضوعاً قرآنياً، وتجمع آياته، ثم تقوم بدراسته بلاغياً. وقد أبدع بعض أولئك الدارسين، وقدّموا دراسات بلاغية رائدة، إلا أن الملحوظة التي لفتت نظري هي أن (بعض) تلك الدراسات قد اقتصر دورها على تقديم شواهد جديدة للأفكار البلاغية، حيث التزم باحثوها بتبويب البحث وفق أبواب البلاغة عند البلاغيين المتأخرين، ومعظم ما يفعلونه هو إجراء تغييرٍ في الشواهد، حيث يأتون بشواهد للفكرة البلاغية من آيات الموضوع القرآني الذي يدرسونه، ويضعونها بديلاً عن الشواهد الموجودة في كتب البلاغيين المتأخرين. وحاولت دراساتٌ أخرى الخروج من هذا النفق بكتابة تحليل بلاغي شامل للآيات الواردة في صلب الدراسة، ولكن بطريقة (البلاغة التحليلية)، حيث سعت إلى إبراز جميع المواضع البلاغية وفق تسلسل الآيات المدروسة، والكشف عن أسرار بلاغتها سواء ارتبطت بالموضوع القرآني المدروس أم لم ترتبط.
إنه ورغم الجهد المبذول في تلك الدراسات إلا أن تساؤلاً ينطرح عن سبب إغفالها ربط التحليل البلاغي بالموضوع القرآني المدروس، حيث لم أشاهد هذا في معظم تلك الدراسات التي اطلعت عليها. وقد ظلّت هذه الفكرة (فكرة الربط بين التحليل البلاغي والموضوع القرآني) تراودني كلما وقعت عيني على بعض تلك الكتب والبحوث، أو عند إشرافي على بعض الباحثين الجدد، أو مناقشة بعضهم الآخر. لقد كان التساؤل عن إمكانية الربط بين الشكل البلاغي والموضوع القرآني المدروس هو أحد الأسئلة التي شغلتني وقتاً، وذلك لأهمية الكشف عن صلة الشكل البلاغي بالموضوع القرآني أثناء التحليل البلاغي.
وقد كان من نتيجة هذا الانشغال أن كانت لي محاولاتٌ متواضعة في هذا المجال في أبحاث لاحقة، حيث كتبتُ بحثاً عن بلاغة الحوار في سورة مريم للكشف عن الأشكال البلاغية التي استخدمها النظم القرآني لتعزيز آداب الحوار الناجح، وكتبتُ أيضًا دراسة بلاغية لسورة القيامة محاوِلاً النظر في ذلك الإشكال الذي يذكره بعض المفسرين حول ترابط أفكار السورة، وقد بذلتُ الجهد في إثبات ترابطها الموضوعي من منظور بلاغي. كما أنني قد أنهيتُ خلال الأيام القليلة الماضية بحثاً عن دور المعمار البلاغي لسورة الضحى في تجلية موضوع السورة، إذ حاولتُ فيه النظرَ إلى صلة معمار السورة البلاغي بتعزيز موضوعها وتجليته، وبيان دور الأشكال البلاغية في الدلالة على موضوع السورة وتأكيده.
على أن تساؤلاً قد يتبادر إلى الذهن عن الاسم الذي يمكن أن يُطلق على هذا النوع من المقاربة البلاغية، فقد سمَّى الأستاذ الخولي ود.شكري عياد ما فعلاه باسم (التفسير الأدبي)، وسمَّته د.عائشة عبدالرحمن باسم (التفسير البياني)، ولكنّي أفضّل تسمية المقاربة التي أقترحها باسم: (البلاغة الموضوعية للقرآن)، فربما يكون هذا العنوان هو الأكثر دلالة على طبيعة هذه المقاربة البحثية وإيضاح فكرتها، فهو في نظري أفضل من عناوين مثل: (التفسير الأدبي للقرآن)، أو (التفسير البلاغي للقرآن)، أو (التفسير البياني للقرآن)، أو (الدراسة البلاغية للقرآن)..الخ، وذلك بسبب حضور هذه العناوين في دراسات وبحوث أخرى تختلف عمَّا تفعله المقاربة البلاغية التي أقترحها، هذا فضلاً عن عدم اتفاق كثير من الباحثين على مراد واحد لهذه العناوين، إذ يستخدمها كثيرون بمعنى دراسة القرآن بلاغيًا أو أدبيًا دون اتفاق على كيفيات الدراسة وطريقتها.
إن لهذا القرآن الكريم على دارسي البلاغة حقاً عظيماً يحتّم عليهم الاهتمام ببلاغة هذا الكتاب الخالد، ودراسته عبر زوايا علمية ورؤى جديدة تضيف إلى ما قدّمه علماء التراث الأجلاّء بشكلٍ يكشف عن ربّانية هذا النص القرآني وبراعة لغته، ولهذا أدعو باحثي الدراسات القرآنية والبلاغة العربية إلى الاهتمام بهذا الجانب، ودراسة دور الشكل البلاغي في تجلية الموضوع القرآني، فهو موضوع أزعم أنه يستحق شيئاً من الاهتمام في الدراسات الأكاديمية والبحوث العلمية في المقبل من الأيام. هذا، والله تعالى من وراء القصد.
** **
د.إبراهيم بن منصور التركي - جامعة القصيم