لطالما كانت المقارنة فعلاً منبوذاً خصوصاً حينما تتعلق بالأشخاص أو بممتلكاتهم. ولهذه الكلمة بذور تنتمي إلى الحرص وتتفرع أغصانها إلى الحسد وتزهر ثمارها من سيئات الكبر. ولأن المقارنة بدأت من إبليس اللعين حين قارن بينه وبين سيدنا آدم عليه السلام معترضاً على حكمة الله: «خلقتني من نار وخلقته من طين»، كان للفعل أصل شيطاني.
يُقال بأن هنالك خيطاً رفيعاً بين العبقرية والجنون، وعلى الخيط نفسه ولكن في جهة أخرى تقع المقارنة والمنافسة الشريفة. لذلك قد يلتبس على البعض ذلك الخيط فيسقطه في جنون المقارنة دون وعي. أما الفئة الأخرى من المقارنين الذين غُيبت عقولهم فأصبح داء المقارنة يجري في دمائهم بكل أمورهم الحياتية، فلا دواء لهم سوى العزل. ومع دخولنا للعالم الافتراضي أو اقتحام وسائل التواصل الاجتماعي لحياتنا الخاصة ولست أعلم أيهما أصح، غصنا أعمق وأعمق في ذلك الوحل.
القناعة ديباجة السلام الداخلي وفاتحة الراحة النفسية، ولها أبواب عدة. مفاتيحها في أيدي الشخص نفسه كمفتاح الرضا بالرزق والإيمان بما قسمه الله من مال وأولاد وصحة. ويقترن ذلك بالتسليم بأن كل شيء يحدث في الوقت الذي أقره الله، وهذا لا يتنافى مع السعي في الرزق والاجتهاد في العمل.
ينظر الموظف إلى أقرانه ممن تخرجوا بنفس الدفعة وقد ترقى أحدهم لمنصب مدير وآخر انتقل إلى عمل أفضل ومرتب أكثر فتقدح شرارة الحسد في قلبه لتحرق متعته الوظيفية. وتبدأ أسئلة ظاهرها معرفة الحال وباطنها ضغينة تنقلها مكالمة هاتفية للزميل. كيف؟ و هل؟ ومتى؟ وقد يصل السؤال إلى كم؟ وفي الجانب الآخر يقفل زميله السماعة حاسداً صديقه على نعمة الأمان الوظيفي والسمعة الطيبة لبيئة عمله.
وتكره الجارة جارتها التي تسافر من بلد إلى آخر و تنتقل من قارة لأخرى برفقة زوجها. بالرغم من الزيارات المتكررة بينهما بحجة حق الجيرة ولكنها ليست في الحقيقة سوى غيرة. تهنئها بالسلامة من وعثاء السفر وتسألها عن الخطة القادمة مع تحديد المكان وإن أمكن معرفة الزمان. تعود إلى منزلها ثم تندب حظها العاثر وقدرها المشؤوم الذي جعلها زوجة لتعيس الحظ الذي لا يستطيع تأمين رحلة سفر خارجية للعائلة الكبيرة. بينما جارتها تضع رأسها على المخدة المبتلة بدموعها متألمة نفسياً وهي تقارن بين أبنائها الأشقياء بأبناء جارتها الناجحين.
يتقابل التاجر الماهر برفيق دربه الستيني المتقاعد بأحد الأسواق دون سابق ميعاد. يتبادلان الأحاديث و يتذكران سويا قصصا مضت عليها عقود من الزمن. تمر الدقائق سريعا وكلاهما يسأل عن حال الآخر وإلى ما ساقه القدر. ينظر التاجر إلى ساعته الثمينة قبل أن يستأذن من صاحبه ذي اللحية البيضاء ويفترقان. يتوارد حديث في خلجات صدر التاجر «آه لو أنني أملك الوقت كما يملكه هذا الكهل لفعلت كذا وكذا»، و يُحسد التاجر على ماله وشبابه من قِبل صاحبه المتقاعد.
المقارنات كالأرقام فلا نهاية لها، وهي نواة معظم المتاعب النفسية والجسدية. فيُفصل الموظف من عمله بسبب احتجاجاته وتقصيره في أداء مهامه، و تُطلق الزوجة بعد كثرة مشاكلها مع بعلها. وحتى ان انتهت كل تلك المقابلات والمقارنات بين الأحياء بعد أن تتوارى أجسادهم تحت الثرى، قد يأتي أحد الأحفاد بعد سنين عديدة ويحسد أموات أصدقائه قائلاً:
يا حظهم.. مقبرتهم أجمل من مقبرتنا!.
** **
- محمد المستنير