د.محمد الدبيسي
الحوشُ في الثقافة (المدنيَّة) -نسبةً إلى المدينة المنورة- نمطٌ معماريٌ عريق، يتمثَّل في فناء يضمُّ مجموعة من المساكن والدور. وربما ضمَّها بين أكنافه مع مدرسة أو زاوية أو رباط أو كُتَّاب، أو مكتبة، وظلَّ على هذا الوصف حتى بدايات العقد الأول من القرن الهجري الحالي. حين بدأت الأحواش المدنيَّة تتهاوى، وتُفنى وتتصرَّم حيواتها إيذاناً بغيابها النهائي خلال تلك المدَّة. ويتبقَّى في الذاكرة والمدوَّنات الأدبية والتاريخية؛ قصص وسير ومعان وعِبر من تلك الحقبة، التي عاشت فيها الأحواش فُتوَّتها ومواسم حياتها الزاهية.
وقد عُرفت الأحواش بأهلها، وشكَّلت إبان تلك الحقبة؛ مكوِّنًا معماريًا واجتماعيًا وإنسانيًا عميق الدلالة على مضمونه، ومحتواه من البشر بمختلف طبقاتهم وانتماءاتهم وأصولهم، وهمومهم واهتماماتهم، وشؤون حياتهم كافة.
ويكفي أن يذكر لك المدني في أي حوشٍ يُقيم؛ حتى يتبيَّن موقعه الجغرافي، وربما انتماؤه المذهبي. ومدى قُربه من المسجد النبوي الشريف، أو بُعده عنه.
وفي روايته الجديدة: (وجوه الحوش) يُقارب الكاتب المدني حسين علي حسين هذه المعاني والمعطيات والعوالم، وغيرها؛ فيبعث الأحواش ويعيدها حيَّةً بالكتابة، يحفظ سِيرتها وثقافتها وتجلياتها سرديًا. يستدعي تاريخها، ويكشف محتواها الجغرافي والديمغرافي في عملٍ روائيٍ غير مسبوق في موضوعه، وبدقةٍ وتقصٍ واستيعاب. إذ كانت الأحواش المدنيَّة عوالم قائمة بذاتها، وكانت روح مجتمع المدينة لمنورة، الأكثر تمثيلاً لجوهره الاجتماعي بقواسمه الثقافية المتنوعة. وسِفرًا يحوي جزءاً كبيرًا من مجريات حياته وتقاليده وشؤونه وشجونه وموروثاته.
ومن ثمَّ تمثِّل الأحواش قواعد تكوين المجتمع المدني وطلائعه، بفسيفسائه البشرية وأطيافه وطبقاته، كما جلَّاها هذا العمل الروائي، الذي حرص كاتبه فيه على إبراز التّنوعات الاجتماعية عِرقيًا وثقافيًا ومذهبيًا، دون أن ينحصر في زاوية المذهب، أو يتجاوزها تحوُّطًا، أو اصطناعًا للتحوُّط. ودون أن يُرتهن لحساسيتها.
كانت مرجعية الكاتب الثقافية وطول باعه في السَّرد، وتراكم تجربته الفنية، والحياتية، وأفقه الإنساني الرَّحب و(خبرته المعرفية)؛ كفيلة في تشكيل بنية الرواية وحمولاتها الدلالية. وهي تتوالى عبر (ستة عشر وجهًا) تتشكَّل سرديًا في خطٍ أفقي يرسم عبره تكوين كل شخصية بسماتها الشكلية، وخصائصها الفكرية والثقافية ونزعاتها الإنسانية، أهواؤها ومزاجها وتقلُّباتها، ومنعطفات سيرتها، ومصيرها. لتكوِّن كل شخصية منها فصلاً من فصول الرواية، ووجهًا من (وجوه الحوش) الذي خصَّه بالفصل الأول: (وجه الحوش) (7)، فرسم طوبغرافيته الإنسانية؛ حدوده ومساحته ومكوناته من البيوت، والساحات والبئر، والحمامات، والعادات والمناشط، والطقوس..الخ. «لو اعتليتَ منارةً من منارات المسجد النبوي بالمدينة المنورة، خصوصًا المنارة السُّليمانية؛ لرأيتَ الحوش بتفاصيله كافة قريبًا منها. شكل دائري يجاوره أحواش أشكالها مربعَّة ومستطيلة. ذات مساحات متفاوتة بجدران سميكة بُنيت بالحجارة السوداء الصَّلدة والطين والحشائش، حوش آغا المستلم له باب واحد، محاط بسوار من حديد...، بيوت الحوش كلها من الطين، وهي جميعًا تطلُّ على صحن الدائرة، لكل بيت واجهة واحدة، باب واحد، يُفتح ويُغلق بمفتاح طويل من الخشب..»(7). وباستهلالٍ نصيٍ كهذا يمكن تلمُّس إلى أي حدٍّ كان المكان/الحوش؛ مشهدًا تُولدُ فيه الأحداث وتتخلَّق وتتطور، وتتصاعد وتتوتَّر. وتنطلق في فضائه الشخصيات وتتشابك وتتفاعل، تخرج منه وتعود إليه، ملتزمةً بفروضه وسمْته، وبقوانينه العرفية، أو رافضةً لها. ومنتميةً إليه بوصفه محضنًا حسَّيًا ومعنويًا، بكل ما يرشح عن ذلك الانتماء من سلوك ومواقف، ومباهج وأحزان، وشعورٍ بالأُلفة والأمان.
(حوش الأجَاوِزَة) الذي أبصر فيه الكاتب النور، كان ضمن سلسلة الأحواش المدنيَّة التي تنفسَّت فيها شخصيات الرواية الحياة. وعاشت فيه أواخر العهد العثماني وبدايات العهد الشريفي، أو كما جاء في الفصول الأولى من الراوية؛ التي حقَّقت سرديًا شجون تلك الحقبة وحدثها الأهم؛ حصار أهل المدينة أثناء الحرب العالمية الأولى، فتهجير أهلها منها إلى الشام وتركيا. حدثٌ قاربه الكاتب بحذر، دون الارتهان لمتوالياته المأساوية، ودون الترافع الصَّاخب ضده. أو حصر الأحداث السردية في إطاره. فحياة الأحواش، والحياة فيها -بحسب الرواية- هي التي تستدعي الأحداث التزامًا بالحقبة الزمنية التي تشكَّلت فيها، وليس العكس.
ولذا جاءت متوالية الأحداث السردية في الرواية موازية نظريًا لحدث التهجير، ومتقاطعة معه أحيانًا، إذا ما نظرنا إلى موقف أهل المدينة من فخري باشا وولاته، وحدث الحرب بين العثمانيين، وبين الأشراف وحلفائهم.» المدينة الآن وسط الكماشة!، فخري باشا عندنا ...، الشريف والإنجليز والأتراك والألمان يتقاتلون في كل مكان!، هم يتقاتلون ونحن نجوع...، الجوع يملأ الطرقات..»(95).. وقد استوعبت الرواية هذه الأحوال وتداعياتها، دون أن تتماهى في ظلالها. فكانت و(جوه الحوش) على تنوعها الأقوى حضورًا، وكانت سِيرُها الحياتية الدرامية المكتظة بالتفاصيل والتوترات والمآزق؛ هي مادة السرد ولُحمة بنيانه.
وجاءت جلُّ هذه الوجوه/الشخصيات المحورية في الرواية؛ أسماء أعلام مفردة، تخلَّلتها أوصاف وكنى تقوم مقام العَلَم دلالةً، وشكَّلت عناوين الرواية: «الريم، الزينبي، هلالة، مقبول، الشيخ، فرج، مريم، أبوركبة، معصومة، نوَّاب..» الخ. وجميعها تنتمي إلى حقل اجتماعي (معيَّن) درج المنتمون إليه على وصف أنفسهم بـ(المؤمنين)، وهو وصفٌ جاء صراحةً في الرواية في موضع نصي واحد. دونما تكريس أو تكرار، إذ لم يغب عن فطنة الكاتب ما لتكراره من تنميط نسقي ليس مكانه الفن السردي. وإن جاءت دلالات الوصف ومقتضياته الشعائرية السلوكية والاعتقادية في سياقات متعددة من الرواية. تشفُّ عن المُنتمى المذهبي، ولا تنغلق في إساره أو تنحسر في إطاره.
شخصياتٌ لكلٍّ منها ظروفه ومُنتماه المكاني في أحد الأحواش أو تخومها، وجاء كلٌّ منها بفصلٍ مستقلٍ - وليس منفصلاً- عن الآخر. فصول يحكمها التنظيم السردي للنص كتابيًا، الذي اختاره الكاتب، بترتيب عددي متناسب بين الفصول، ولا سيما العشر الأُوَل منها. ويتيح هذا الترتيب الإحاطة بالشخصية من جميع جوانبها، وكشف تكوينها النفسي، وتتبع أبعادها، وموقفها مما يحيط بها من ظروف، ودورها في منظومة الأحداث. ومدى تأثرها بالمكان، ووعيها بالظروف التي تكتنفه.
وهي أيضًا شخصيات قلقة، تعيش يومها الطويل بسقف أحلامٍ منتهاها: الأمان. تعاني أحوالاً مأزومة، وتكابد ظروف حياة صعبة، بإيمان وتسليم بما قُدِّر لها، أو عليها. وبمستوى نسبي من الوعي، يمنحها القدرة على إدراك مغبَّة ما حولها وهي تعيش ارتدادته وتبعاته؛ (حصار وجوع) يكويان الأكباد وينهشان الأجساد..تُدار حولهما قصص وحكايات تتناسل من ذاكرة شخصيات تحاول لملمة يومها/الزمن الثقيل، بالتنقل بين الأحواش، أو قصد المزارع والبساتين ومحافل الموسرين، أو التوجُّه للحرم، أو الجلوس في المقاهي وتبادل القصص والأحاديث، والإفضاء لبعضها البعض؛ تنفيسًا عن تكاليف الحصار والجوع وتباريحهما. شخصيات من فرط إدراكها لهول واقعها، صارت تتناقل رواية مشاهد فجائعية بأُلفةٍ مُرَّة قاهرة، مُسلِّمة بواقعها الأليم.
« ..، لم يأته علم ما يقوم به الجنود الحمر ومساعدوهم من أبناء البادية، لكنه كان يشعر أن الأمور تسوء يومًا بعد يوم، وقال له قادمٌ من وسط المدينة؛ بأن الأقوات في المدينة تتناقص على الدوام، حتى أكلت القطط والكلاب، وأصبحت حبة التمر توازي وزنها ذهبًا» (68) . ولم تستطع هذه الأحوال والمشاهد الصادمة للشعور الإنساني؛ تقويض ناموس الحياة، أو كسر اعتياد الناس لنشاطهم اليومي المألوف وممارسته، بل سارت الحياة بتنوع مظاهرها وفاعلياتها حيوية لا تتوقف بسبب شُح الأقوات وتوالي المنغِّصات، «كان سوق العيَّاشة يمتد باتجاه شارع العينية شمالًا، وباتجاه الأشراف جنوبًا، وباتجاه مسجد الغمامة غربًا، وباتجاه دُرَّة المدينة ونورها المسجد النبوي الشريف شرقًا؛ كان هذا السوق منذ فلقة الصبح يتحوَّل إلى خليَّة حيَّة، عامرٍ بكل جديدٍ وقديمٍ ومدهشٍ..» (174).
ونوَّع الكاتب في تقديمه للشخصيات بين الوصف الجسماني التفصيلي، والصفات الخُلُقية العامة، وبين الشروع مباشرة في تقديم الشخصية من خلال دورها في الأحداث، وبادل في استخدام الطريقتين في جميع الفصول، والوجوه التي قدَّمها.
وفي إطار الحقبة الزمنية الحَرِجة: الحرب، الحصار، الجوع، التهجير؛ تعيش كل شخصية/ وجه من (وجوه الحوش) أزمتها الخاصة، وتذعن بتسليم ممعن في الأسى لمصيرها؛ ما بين الموت (هلاله)، والاختفاء (حسن الزَّينبي)، أو المصير/ اللغز، المفتوح على كل الاحتمالات، كما فعل الكاتب في شخصيتي: (فرج بن شداد المولد، ومعصومة). وهكذا تفضي تداعيات الحقبة الأليمة في حياة المدنيين، تزاول تعتيم أي صفاء أو سكينة، من نفحات المكان المقدس. كما كان من أمر (الريم- خريش القتاد) وعقدة اسمه الانثوي (الريم)، ومعضلة الحصول على (التَّابعية). التي ظلَّت تؤرقه، وتثقل نفسه بمزيد من الضجر والمرارة. وهو يذرع المسافات بين أحواش المدينة والحرم؛ هرباً من نفسه ومن عُقد حياته التي فتلتها ظروفه الصعبة، ومواضعات مجتمعه القاهرة، التي أنكرت عليه حقه الإنساني، فسلبته وجوده، وقوَّضت بداخله الشعور بالأمان.
ثم (حسن الزينبي) وقلق الانتماء، ولعنة الهروب التي ظلت تلاحقه، والتخرصات والتأويلات التي ما فتئت تحاول فك شفرة وجوده وأصوله. فـ(هلاله البشراوية)، ووحدتها الساكنة الهادئة، ومنطقها الحكيم وعلاقاتها الحميمة ببقية الشخصيات، وقد امتهنت تطبيب سكان الحوش ومجاوراته. إلى (مقبول بن شدَّاد السويرجي)، وعالمه الخاص/ دكَّانه الذي قضى فيه بهجة عمره، وتماهى وجوده فيه، حتى كأنه يعني له العمر كله، وعقدة علاقته بزوجته، وأسرارها الدفينة التي ظل يهرب منها دائمًا.
وإلى هذه الشخصيات التي عنون بها فصول الرواية؛ ثمة شخصيات أخرى (مساندة) مرحلية، يستدعيها تنامي الأحداث وتصاعدها الدرامي، في حين امتد حضور الشخصيات المحورية في الفصل الخاص بكلٍّ منها، لينتهي امتدادها بنهاية كل فصل إجرائيًا، ثم تعاود أحداث (الوجوه) -الفصول- الأخرى استدعاءها؛ فالشخصيات الثلاث الأُوَل تراوح حضورها استدامة وتأثيراً في تشابك الأحداث وعُقدِها في جلِّ الفصول. ومنها (هلالة) التي ختم الفصل الخاص بها بوفاتها، واستمر حضورها في جلِّ الفصول. وزاوج الكاتب بين الأسلوبين: التصويري، والاستبطاني، وتوظيف المنولوج الداخلي لكشف تكوين الشخصيات النفسي وأبعاده، وهي التقنيات التي تندرج ضمن (تيار الوعي) الذي تميَّزت به سرديات الكاتب، ولا سيما في إنتاجه القصصي.
وعبر أحداث كل شخصية (سيرتها المكثَّفة) في كلِّ فصل، قدَّم الكاتب (وجوه الحوش)، التي كانت وجوهًا متنوعة متباينة التكوين والظروف والخصائص والمصير. ونهضت بإبراز صورة الحياة في المدينة المنورة في تلك الحقبة، بتجلياتها كافة، التي زامنت حدث التهجير القسري، وظروف الحرب، وصراع القوى، ومزدوجة الجوع والحصار. وانحاز صوت السرد إلى خبايا الحياة الإنسانية، وخفايا التعايش البشري بين الشخصيات في محيطها المكاني الإطاري/ المدينة المنورة، وجلَّى دقائق التعامل والتفاعل بين الناس، وعاداتهم وتقاليدهم المعيشية والدينية والاجتماعية، ومظاهر الوئام والحميمية بينهم، وتعايشهم الذي لم يخل من صراعات وخلافات واختلافات، كشفت منطويات نفوس وحزازاتها، وضغائنها ونزواتها، مما تقتضيه سيرورة الحياة وطبائع البشر. وتكشَّفت من خلال دورة الأحداث وتصاعدها والحوارات ومضامينها، والوصف السردي؛ صورة بالغة الدقة لكل تلك الشخصيات في معترك الحياة في المدينة خلال تلك المرحلة، الذين صوَّرت الرواية طبيعة حياتهم بعفوية وسلاسة، وتدفق أسلوبي قدَّم حمولات تلك الحقبة، بما فيها الجانب المادي وضرورات الحياة البشرية؛ مطاعم الناس وأنواعها وطرائق إعدادها، ومشاربهم، ولباسهم وأشكاله وصفاته، والبيت ومكوناته، ونشاطهم اليومي المتنوع، بالنظر لمعطيات المرحلة دينيًا وثقافيًا واقتصاديًا وسياسيًا، وظلالها على اليومي المعيشي والتعاملي، وآثارها في اتجاهات الوعي الجمعي، والفردي للشخصيات.
وأجاد الكاتب في إضاءة خفايا تلك المرحلة وانعطافاتها، والمجهول والمسكوت عنه فيها، وانحاز إلى معجمها التداولي في شؤون الحياة بتفاصيلها وجزئياتها الدقيقة، ومزاجها النفسي والفكري، فصوَّر البنية المعمارية لمجتمع الأحواش وتقسيماتها الهندسية وأحيزتها، وأشكال البيوت والدور والحمامات وتقسيماتها، وعناصر الحياة المادية وضروراتها، ورسم بدقة صورة بانورامية لبيئة شخصياته، ومسارات التوتر فيها، وأنماط العلاقات الاجتماعية ومستوياتها وما يعتورها من منغصات.
كما تناول الجوانب المشرقة في تلك البيئة؛ علميًا وثقافيًا وإنسانيًا، في السياق النصي للأحداث، الذي اعتمد جانب الوصف السردي في جلِّ الرواية، التي تخلَّل فصولها وسياقاتها النصية حوارات محدودة بين الشخصيات؛ ظهر الاضطراب واضحًا في صياغتها ما بين الفصحي، والعامية، مما أبرز سمة التكلُّف في بعضها وعدم توافقه مع طبيعة الشخصية ومستواها الثقافي.
وقد استهل الكاتب الرواية بضمير المخاطب في الفصل الأول. فالمتكلم في الفصل الثاني. فالغائب الذي استخدمه كثيراً؛ مقاربًا بواسطة تلك الضمائر موقع السارد العليم، ومحافظًا في الآن ذاته على حساسية المسافة بينه وبين الشخصيات. فجاء إيقاع السرد متدفقًا وسلسًا ومترابطًا بلا ترهل. وتشكَّلت بحسب ذلك شخصياته ونمت وتطورت، وانعقدت بحركتها وتصرفاتها ومقولاتها ومواقفها؛ سيرورة الأحداث ومآلاتها، وتكشَّفت أبعاد تلك الشخصيات. وبرز مقدار تأثرها بالمكان، وبظروفه في تلك الحقبة الحرجة، وأحوالها العصيبة. واستبان المتلقي حياة تلك المرحلة، وكأنه يطلُّ عبرها على الحياة في المدينة قبل قرنٍ من الزمن بكل زخمها الإنساني، ويلتقى هذه الشخصيات ويعايشها، ويسلك معها الأزقة والشوارع والدروب: (حوش الأجاوزة، حوش السيد، حوش عانقني، سيل أبي جيدة، الخان، درب الجنايز، الحرم، العنبرية، العيون، الجرف، قربان، الاستسيون، العوالي، الشِّريبات، قباء)..الخ. وهي بمجموعها تكِّون الفضاء السردي والمشهد الحياتي لموضوع الرواية وأحداثها، ووجوه الحياة فيها، بأنماطها وقواسمها وطقوسها وأنظمتها. وجوهٌ من العمق الإنساني لا يوجد ما يوحدها سوى انتمائها للمكان، وقلقها، وتوقها للأمان. على تشعب الطرائق والأدوات والمسالك التي يمكن أن توصلها إلى ذلك المبتغى. وتكشف الفصول السردية المتتابعة منطوياتها النفسية والعاطفية، وأفكارها، ومُنتماها المذهبي.
وتعين لغة الكاتب المحكمة الهادئة، والتقنيات الأسلوبية التي استخدمها، على تتبُّع تناميها، وتصوِّر صراعها مع ظروفها ومع الآخرين، وهو في معرض تناول حقبة تاريخية لها حساسيتها. ولكي يعقد العلاقة بينها وبين تلك المرحلة من مراحل تاريخ البلدة الطاهرة؛ استدعى ذلك التاريخ بوقائعه وأحواله- إجمالاً- في نسيج المتن السردي، بوصفه معادلًا للواقع، وتعالق مع حمولاته، ليرسم أجواء تلك الحقبة، ويرصد امتداداتها الاجتماعية عبر الرواية.
ولم يرتهن الكاتب للحدث التاريخي، الذي كان مفصلاً رئيسًا في الصراع ضد التهجير، وفي مواجهة الحصار والجوع والموت، وإنما نسج تداعياته في الحراك الحدثي السردي وفي أحوال الشخصيات ومسير حياتها وعمق ارتباطها بالمكان. ما يُجلِّي صورًا عميقة دقيقة لتفاصيل الحياة اليومية في المدينة المنورة، بوقعها الحيوي وزخمها الإنساني المعبِّر، وفق المتاح من ضرورات الحياة ومقدَّراتها في ذلك الوقت. وكانت وقائع محنة الحصار والمجاعة التي ضربت المدينة وشح الأقوات وانعدامها؛ جزءاً من مظاهر تلك الحقبة، التي عبَّرت عنها أحداث الرواية عبر شخصياتها، بتنوع أدوارها واختلاف خصائصها وطباعها، وتباين منطلقاتها وقناعاتها ومواقفها.
ومن ثمَّ؛ برزت (وجوه الحوش) عبر تلك الوحدة المكانية ثريَّة الدلالة، عميقة الأبعاد متناهيتها، الوحدة المكانية: المدينة/الأحواش هي الفضاء الذي شدَّ أواصر الأحداث السردية، وناغم بينها..هي تلك الأحيزة بشوارعها ومنعطفاتها، وباحاتها بمداخلها ومخارجها على البساتين والبقيع والحرم، وبأسواقها وحوانيتها، ودوابها، وروائح الحياة فيها، بأصوات الشجن المعتق في حناجر أبنائها، وبرنَّة معجمهم اللهجي بمفرداته وطبقاته وإشاراته ودلالاته. بالأحلام الندية التي تسكن أفئدتهم، والنبض الساخن في عروقهم. بالعفوية الإنسانية، التي أضفى عليها الجوار المقدس نسائم التسليم والسلام. بأذهانهم المكتظة بالحكايات والصور والأفكار والذكريات. بوعيهم بقيمة وقيم الجوار، وبنقمتهم على أحوال الحقبة الحرجة التي عاشوا ويلاتها، فأخرجت أنبل ما فيهم.. وأسوأ ما فيهم، عبر تفاصيل حكاية الأحواش الطويلة التي صاغتها رؤية حسين علي حسين، وهو ينقب في الذاكرة والتاريخ والموروث الاجتماعي، ليعيد الأحواش للحياة، ويعيد الحياة إليها، ويتتبع بمنظوره الفني والإنساني حياة الأحواش وحياة الناس في الأحواش، كما لم يفعل ذلك روائيٌ قبله.