عبدالعزيز القاضي
في زحمة الحياة التي تميسمت تقنيا، وتمغنطت إلكترونيا .. شاخت لدى بعض منا حاسة تذوق الأدب، شعره ونثره، مفرداته وتراكيبه. وبهتت موهبة فرز أشكال الجمال في هذا المجال، فقلّ المهتمّون، وتضاءل عدد المتذوقين، ولم يعد جمال التعبير لدى بعض جمالا، لأنهم لا يجدون له في أرواحهم صدى جميلا. وليست التقنية وحدها هي السبب في ضموره، وإن كان لها الدور الأكبر في تأطير الذائقة، وتأطّر التحجيم في هذه السنوات الأخيرة. والذائقة هي عمود النقد الأدبي وركنه الركين، وهي المعيار و المقياس الذي تقاس به درجة الجمال في التعبير الأدبي. فهي مقدمة على معيار اللغة، ومعيار الأخلاق، ومعيار البناء، وغيرها من المعايير. فالأدب (فنّ) والفن وظيفته (المتعة)، ولا مُتعة بلا فائدة. والشعر - في أصله وطبيعته - بيان قلب وروح، لا منشور فكر وعقل، والأديب في البدء إنما – بكل مُغار الفتل - يقول لـ(يُمْتِع) أولا وأخيرا.
والشعر أروعه الخالد، ثم الجميل الممتع، أما (الخالد) منه فيكاد أن يكون قد دُفن مع (شوقي). وأما (الجميل الممتع) فلا يزال، وسيظل ويدوم ما دامت القرائح تُفرز، والذوائق تستقبل. ونحن إلى اليوم لا نزال نتمطّق بالشعر الخالد ونتمثّل به من اختياراتنا منه في عصور ازدهاره، وهي العصور القديمة. ونادرا ما نتمثل ببيت من شعر حديث. وقد تجاوزنا مرحلة صدمة وفاة الشعر الخالد، وصرنا نبحث عن الشعر الجميل فحسب.
وإذا كان جمال الشعر يكمن في تضافر مكونات الإبداع: المعاني والألفاظ والصور الإيحاءات وغيرها، فإن (الصياغة) هي أم الإبداع، فهي الأساس، وهي المكوّن الذي يجوز الشعر معه منفردا، حتى ولو كان بلا معنى ظاهر، ولا صورة مثيرة، ولا ظل محفّز.. كقول الشاعر:
كأننا والماء من حولنا
قومٌ جلوس حولهم ماء
فهذا البيت معدودٌ - عند القدماء والمحدثين - من الشعر المعيب الأجوف الخالي من المعنى، لأنه يشبه الشيء بنفسه، ولا فائدة فيه ولا طائل من ورائه. لكن هل هو كذلك على الحقيقة؟ الجواب هو أن هذا رأي. وهناك رأي مقابل يرى أنه من الشعر الخالد، لأنه صار مثلا سائرا، لا يزال يُروى ويُتمثّل به، منذ إنشائه قبل عدة قرون إلى اليوم. وأن ميزته هي نفسها عيبه عند القدماء. فالمتعة والصدمة والدهشة تكمنان في هذا الخواء المعنوي المظنون، حيث يرتد إليك معنى البيت الأول بصياغة مختلفة في الشطر الثاني، وفي هذا صدمتان مدهشتان: الخداع البصري والعقلي بالتكرار، وشحذ الذهن وتوجيهه للبحث عن الأعمق وراء هذا الخداع. والمعنى لا يكون دائما في ترجمة الألفاظ، بل يكون في المغزى، وهو المعنى الاصطلاحي، الذي ندركه، وقد لا نستطيع – في بعض الأحيان – ترجمته. والصورة وإن كانت في الظاهر تشبيها للشيء بنفسه، إلا أن غايتها وصف حال من يدور في حلقة مفرغة. وهذا هو ما تجاهلته الذائقة الفردية الخاصة، في حين أن الذائقة الجماعية العامة أدركته وأدرجته في سجل الشرف. ومع هذا كله فإننا نرى أنه استحق الخلود لا بمعناه وصورته الساخرة.. بل بـ(الصياغة) بهذا الاتساق السهل السلس في البناء، وبهذا الاتساق تخلّقت (المتعة) في الذائقة. وشمولية مغزاه، وإنسانيته نقلته من المحلية إلى العالمية – إن صح التعبير – فقُيِّد في ديوان (الخلود). ولا شك في أن من يراه فارغا محق، وأن من يراه مترعا بالجمال محق أيضا، فجمال الأدب يقرره (الذوق) كما ذكرنا، والأذواق متعددة كتعدد طعوم المأكولات والمشروبات والمشمومات. فهو أوسع من أن تحيط به ذائقة واحدة.
وقيمة الشعر وأهميته تمتد في دوائر مختلفة، تبدأ ضيقة ثم تتسع. وأُولى هذه الدوائر دائرة الشاعر ومحيطه، فهو يقول الشعر لنفسه ولخاصته أولا، ليوثق مشاعره ومحطات حياته. وثانيتها دائرة المجتمع الأدبي الذي يقرأ الشعر ويتذوقه في زمن الشاعر، وهذا المجتمع هو الذي يمنح الشعر شهادة النجاح أوالإخفاق. وثالثتها دائرة المجتمع المتذوق للشعر في عصر الشاعر وما يليه من عصور، وهذا لا يصل إليه إلا الشعر الخالد.
أما بعد ..
فأقول هذا بعد أن قرأت (سيف من ورق)، وهو ديوان صغير، من شعر أصيل، صدر قبل أيام للشاعرة القديرة الدكتورة لمياء بنت حمد العقيل. وبعد أن قرأت قصائد الديوان وجدت فيها ما كنت أعرف بعضه من قبل، وهو أن لمياء شاعرة بالفطرة، فهي تصدر في قصائدها عن موهبة وطبع، والمطبوع من الشعراء اليوم نادر. والشعر المطبوع هو الذي ينبثق في القريحة بلا تكلف، فيبدو متسقا متساوقا، مثيرا ومؤثرا. والقريحة التي تفرز الشعر المطبوع، وهو الأقل، إنما هي (قريحة مبدعة). أما القريحة التي تُنتج الشعر المصنوع، وهو الأكثر، فـ(قريحة متمكنة)، ولمياء تُفرز الشعر لا تنتجه.
و(سيف من ورق) قصيدة تصدرت قصائد الديوان ومقطوعاته، فكانت (عيّنة) ممثلة لـ(شاعرية) الشاعرة، و(شعرية) الديوان. تقول لمياء:
مَنْ لقلبٍ كلما رُمَّ انفلق؟
ما به من رونق الشعر رمق
دعوة التقريض ما أنكرها
وسوى الأوزان لحنًا ما اعتنق
شرب البحر بشطّيه فمن
كأسه مصطبح والمغتبق
لم يزل ينقد من أصدافه
طبقا يركب فيه عن طبق
لا يفلّ السيف إلا صنوه
تكذب الأمثال والشعر صدق
فإذا ما انصلت السيف على
نحر قافٍ فهو (سيف من ورق)
ومعنى (من لقلب) في أول القصيدة: من يساعده ويحتويه؟ وهو تعبير يكثر استعماله في الشعر النبطي خصوصا. ويكون بمنزلة الاستهلال. و(التقريض) في البيت الثاني: قرض الشعر.
والبيت الأخير الذي تضافرت فيه الصياغة السَّلِسَة، والألفاظ المتّسقة، والمعنى العميق، والرمزية المحفّزة، والصورة المخيفة .. لتأتي في نهايته المفاجأة في عبارة (سيف من ورق). هذا البيت، بل هذا التعبير، هو القصيدة، وهو الديوان، وهو الشاعرة لمياء العقيل!
وليست غاية هذا الحديث هي تفكيك جماليات أبيات وقصائد الديوان، وإجراء قراءات انطباعية ونقدية عليها.. لكني سأضع هنا مقتطفات من بعض قصائد الديوان، أظن أنها تقدم تصوّرًا حقيقيا عن الشاعرة، وعن الشعر، وعن الشعرية في الديوان.
ففي قصيدة عنوانها (بلاد الغرام) وهي في حب الوطن، وللوطن في روح لمياء حضور لا يخفت ولا يبهت، وله في شعرها عدة قصائد تقول:
آمنت أن هواه أصدق آية
والعُمْر - دون يقينه - إلحاد
وكفرت بالدنيا سواه فإنه
رِبْحٌ وكل العالمين كساد!
وتقول من قصيدة بعنوان (فتاة التسعين) بمناسبة اليوم الوطني التسعين:
لو مددت البحور في نظم حبي
نفدت كلها وما قلت ما بي!
ومن قصيدة اختزلت فيها سيرة سيد البشر عليه أفضل الصلاة والسلام، عنوانها (الذائدة)، تقول:
صلى الإله على المختار ما تُليت
في سائر العُصُر الآياتُ والسُّوَرُ
صلى الإله على المبعوث سيدنا
بألف ألف صلاة فوقها أُخَرُ
ومنها:
لِذِكْر أحمدَ كم تهفو القلوبُ وكمْ
تزكو النفوس وبالإحسان تنهمرُ
من الدِّمَقْس نَسَجتُ اليوم قافيةً
هامُ الزمانِ بها في الكون يَعْتمرُ
وصُغْتُها من نُضار الحق (ذائدة)
عن حوزة المصطفى تبقى وتُدَّخَرُ
أما (قصة غيمة) فمناسبتها (زفّة أندلسية لغالية في ليلة زفافها). والشعر الذي يصاحب (الزفّة) - إلقاءً أو غناءً - من أغراض الشعر المستجدة في هذا الزمان كما أظن. وهو غرض أفرزته طبيعة الأعراس والمهرجانات السعيدة اليوم، والزفّة احتفال (نسائي) بحت، يصوغ الشعر المصاحب لها شاعر أو شاعرة، فهي طقس يُؤدى في قاعة النساء. ومن هذه القصيدة هذا الجزء من هذا المقطع المصوغ على لسان العروس:
أشرعوا بوابة العُمر فقد
أشرقت شمسي ولا تنوي الغروب
هنّئوا (أمي) على رفقٍ بها
فهي روحي وملاذي في الخطوب
ليت شعري هل درت سيدتي
أن قلبي في هواها سيذوب؟
هل تُرى يدري (أبي) أني به
أرفع الهامة في كل الدروب؟
هل تُرى يدري ضيوفي أنهم
قرة العين وحبات القلوب؟
وللمياء في رثاء الأقارب والأحباب قصائد مؤثرة، تقول في قصيدة بعنوان (تنهيدة الناعي) ترثي بها خالتها حصة أبالخيل -رحمها الله-:
وا حرّ قلباه مما هزَّ أسماعي
وا حزَّ كبداه من تنهيدة الناعي
وا حُزْنَ قلبيَ لمّا قال لي رحلت
أُمُّ الجميع ولبّت دعوة الداعي
وفي عتاب لمن نسي العهود، وأنكر العشرة، تقول من قصيدة عنوانها (حصنٌ تهاوى):
أيها الحصن الذي ظلّلني
من لظى الدهر وضيم الزمن
ما لك اليوم تهاويت على
سقف روحي فتهاوى بدني
إلى أن تقول:
رب جرح في الحشا والروح كم
كنت تأسوه وتجلو وَهَني
كيف تَنْكا جُرْحَ خِلٍّ لم يزل
ذاكرًا عهد الهوى بالحسن
تائهٌ عنك فهل تُرشدني؟
غارقٌ فيك فهل تنقذني؟
ومن رقيق العتاب قولها من قصيدة بعنوان (لا تكن أسدا):
لا يستوي من يدير الكأس مُترعةً
بالوصل معْ من سقى من كأسه نكدا
إن المحبَّ يغضُّ الطرف عن زلل
وليس يُحصي خطايا حبِّه رصدا
ومنها:
إذا بُليتَ بأنثى كن لها رجلا
وإن بُليت بشاةٍ لا تكن أسدا
ومن قصيدة بعنوان (ستفرج) تقول لمياء:
قل للذي أعيته أشجان الجوى
يوما ستُفرج!
قسمًا بمن فلق النوى
قسمًا به
قسمًا
ستُفرج!
ومن (المناجاة الوجدانية) تهتف فتقول في ((ميقات الشوق):
عُد يا حبيبي فملء القلب آهات
والذكريات تراتيل وآيات
يا صاحبي عُد! فإن الصحب كلهُمُ
من بعد صحبتنا في خاطري ماتوا
أنت (الصحابة) و(الآل) أنت هوىً
به تُحَلِّق في آفاقها الذات
تطوف بي ذكريات العمر كل دجى
فالروح كعبتها والشوق ميقات
إلى أن تقول:
سِيّانِ أولُ أعوامي وآخرُها
أنت البدايات فيها والنهايات
وفي (يوم المعلم العالمي) تقول من قصيدة بعنوان (من أوصلك؟):
ارفع جبينك إن مجد الكون لك
فلَأَنْت فينا كالرسول أو الملَك
أمُعَلِّمَ الأجيال هذا زرعنا
لو لم تَجُد بالماء والدفء هلك
إلى أن تقول:
أنّى يُرى ملكوت أرض أوسما
من غير كوكبك المنير على الفلك؟
قل لي بربك يا محقّرَ قدرِهِ
لولا المعلم للعلا من أوصلك؟
هذه نماذج من بعض قصائد الديوان التي تراوحت بين الوجدانيات، والوطنيات، والاجتماعيات الخاصة والعامة، والعتاب وغيرها. وفيه مجموعة من القصائد عُنونت بـ(الكورونيات) نسبة إلى وباء كورونا. وهي مجموعة قصائد وجدانية تتناول آثار الوباء على المجتمع والحياة، وعلى المساجد خاصة أيام الحظر.