أنظر إلى الروزنامة، يأخذني الخميس التاسع والعشرون من شهر أغسطس 2019، عندما ركبنا سيارة رنيم الساعة السادسة والنصف مساءً، وسرنا عبر الطريق المؤدي لمقبرة الهفوف بمدينة الأحساء بسرعة 90 كلم/س، تذكرت مواعيد رحلات الطائرة، كيف نسابق السيارات؛ خوفًا من فوات لحظة الإقلاع لرحلة سعيدة، أما اليوم فرحلتنا المغادرة واقفة على حافة الحياة، وإقلاعها أبدي، فكان لابد أن نسبق هواء المدينة وأضواء الشوارع وخيالات المارة؛ لنظفر بوصولٍ أخير.
وصلنا المقبرة!
ركنت سيارتها، نزلنا برفقة أخواتي الثلاثة، جئنا معًا لنحتوي الانهيارات المُحتملة لبعضنا البعض ونلوّح تلويحات الوداع، وجدت نفسي صامتة، أبحث بعيوني عن جسدٍ مُمدد، وقد خمد صوته وانطفأت قوته، استقبلني باب المُغتسل، فكأني ارتطمتُ بحاجز أعادني للوراء بتدفقٍ شديد، انهمر البكاء مني كما ينفلت الشلال على جبلٍ أبيض، يتدحرج بقوة متدافعة من صخرة لأخرى! تراجعت، لا أقوى على الدخول! استجمعت قوايَّ مرة أخرى ودخلت بهدوء، لكيلا أزعج روحه النائمة، فوجدتُ إخوتي يبكون مُنكسين رؤوسهم، وأخواتي يكلمنه رافعات أيديهن إلى الأعلى، يستشفعن له من الله، لم أقترب من جثته المغطاة، التصقت بالجدار وأنا أذرف الدموع، فلم تحملني قدماي، حتى انسلَّ جسدي، لأرزح على الأرض، فتحت هاتفي النقال، لأقرأ القرآن، كنت أرى الآيات مشوشة في عيوني الممتلئة بالدموع! أُدرك أنها آخر لحظة وجودية، فلابد أن يكون صعودها محمولًا برافعات القداسة، إنها لحظة إيمان ولا مجال للشك أو إعادة النظر. لا وقت للانتظار، إن الجسد الذي انتظر تسعة أشهر ليكتمل تكوينه البدائي ويصير مؤهلًا لنزول عالم المرئيات، أنهى مدته الافتراضية بعد أن استثمر جزءًا منها فيما يستحق وهدر الكثير فيما لا يستحق، وها هو الآن مُغادرٌ لعالم آخر. لقد سمعت الطبيبة ذات مرة تقول: إن جسد الميت لا يحتمل حرارة الطقس، لهذا يحفظونه في ثلاجة الموتى لحين وصول ذويه واستلامه، علينا أن نتعجل في السلام الأخير، ليأخذوه إلى مرقده الأبدي.
في هذه اللحظات الأليمة، كنت أتفقد روحه بين جدران وزوايا غرفة المُغتسل، أحاول أن أرى ما لا يُرى، اُنقّل عيني من هذا الباب إلى الآخر، شاهدتُ قِطعًا من القطن الأبيض، وأشياء لم يسبق لي أن رأيتها من قبل، أوجعني وجودها الذي لا أفهمه، لكن تفقدي للروح استحكم، وصرت أسأل: هل انفصلت روح أبي عن جسده أم ليس بعد؟ ربما أنها تنتظر حتى تنزل الجثة في التراب أو تتحلل، أيعقل؟! الجسد الذي تقوم عليه صراعات الإنسان يخمد خمودًا صارخًا مرة واحدة ويفقد قيمته ولا يبقى سوى المعنى! ما هو مآل الغرائز؟ وهل الروح قادرة على حمل كل هذا المعنى؟! يقولون: إنها تأتي كحمامة لزيارة أهلها، فهل بدأت رحلتنا من اليوم في مراقبة الحمام؟ الروح، الموت، العالم الآخر، يكاد رأسي ينفجر من أصوات الفلاسفة، ويبدو أني أميل لـ «طبيعية الروح»، الديكارتية لأزاوجها بإيماني. أرى أنها الطريقة المثلى للإمساك بدماغي كيلا يطير أو ينزلق! لقد عرفت الآن أن أسوأ فكرة لهذه اللحظة هي فكرة العدم، هشَّة ومحرضة على الجنون.
أوقفت عبير دموعها:
لماذا لا تفتحون وجهه؟
لم يكن حامد قادرًا على الرد، فأومأ برأسه:
لا. لا داعي.
استعدتُ وقوفي مرة أخرى، لم أنبس ببنت شفة، لكن السؤال الحائر كان يأكل رأسي من الداخل: هل تغير وجه والدي؟ أظن أن إخوتي يعتقدون أن البنات أضعف من احتمال المشهد، ولهذا لا يرغبون بفتحه، وهذا ينطبق عليّ فعلًا، فلو انكشف الغطاء، ستمتطي الصورة قلبي ولن تدعه لآخر العمر، كنت راضية بقرارهم الذي رأف بذاكرتي بدون تعمد، فلم يسبق أن كشفت لهم أن لي ذاكرة لاسعة بمجساتها العاطفية وحساسة للحظات الانفصال والنهايات وحواف الأشياء وتوافه الأمور وأعماق الشعور والزوايا التي يعبر عليها الآخرون عبورًا خفيفًا.
انتهى اللقاء الأخير وخرجنا من المُغتسل بحزن متعثر، فلا مناص من لحظة يمتزج فيها الشعور واللاشعور، عدنا إلى أماكننا في السيارة، سرنا في طريق العودة، ولا زالت عيوني تراه مُمددًا على حافة الحياة، أجهشت بالبكاء:
لقد خمدت حركة والدي، وانطفأ صوته إلى الأبد، كيف استسلم جسده القوي وعافيته الجيدة إلى هذا الموت؟ «أبي القوي لا يتحرك»، هذه الجملة التي خرجت من أعماق روحي، وعبّرت عن مدى صدمتي بضعف الإنسان في لحظة مباغتة تُدعى الموت!
وصلنا البيت، وقد اجتمع فيه بعض النساء من الجيران والأهل والأصدقاء المقربين، فلما اكتمل حضور أعمامي وأخوالي وأبنائهم وأزواج أخواتي وجميع الأحفاد، نادوا علينا، نحن النساء.
دخلنا نحن بناته، ووالدتي جلست على أريكة بجوار الباب للتعزية، ثم دخلت بعض نساء العائلة المقربات وبعضهن وقف عند الباب لتبادل التعزية مع رجال العائلة، هكذا لأول مرة أشعر أن أبي هو الأخ والعم والخال الأكبر لكل هؤلاء، امتزج بداخلي شعور أليم وموجع جدًا، «هل لحظة الموت تُعَلّم الناسَ مقادير الأشياء جيدًا أكثر من لحظات الحياة الطويلة؟» لماذا عندما يموت المرء تنصهر شحنات الاختلاف ويذوب الخلاف ويتماهى؛ لتتحد عاطفة الدم والرابطة الوراثية وتنبض الجينات ناطقة بين جلود البشر؟ جلست مُقابلة لمقعد عمي الذي كان ينظر إليّ، كأنه يتأكد من هيأتي قائلًا: هذا حال الدنيا والبقاء لله.
دخلت عمتي، جلست بمحاذاتي وصارت تردد: لقد كان حنونًا عليكم، والجميع يعرف مدى حنانه. فوجدت البقية يكررنَّ مضمون كلامها بصيغ وقصص مختلفة، فاندفعت الحيرة تموج في جوفي: إن الإنسان يمكنه التعامل بمرونة والتغافل والتسامح، ولكنه يهمل هذه القيم في وقت الرخاء، فإذا ما اصطكَّت الأبواب وحانت السكرة الأخيرة، تنبَّه لانعكاسات الخير في وجوه الراحلين، وكأنه يتعمد ذكر الحسن، يفعل ذلك بلياقة كافية، بعد أن أراق عمره مسكونًا بتعزيز الاختلافات وتعميق روابط مقطوعة وتبرير برودتها؟ فلقد كان ضروريًا أن نفقد بعض أهلينا؛ حتى نجتمع في لحظة حب نؤكد فيها صدق مشاعرنا، ها هي أجساد العائلة مجتمعة بينما لا ندري هل روح والدي تُشاركنا اللحظة وتحوم خلف رؤوسنا؟ أم أنها لم تبارح جسدها المدفون في المقبرة؟
بعد ساعتين غادر أفراد العائلة واحدًا تلو الآخر بعد أن دعوا لنا بالصبر والسلوان، واستحثوا في إخوتنا الكِبار حس المسؤولية للعناية بوالدتي؛ التي ستبقى لوحدها في البيت.
تفرقنا في الغرف، ونمنا جميعًا أول ليلة في البيت، بينما رقد والدي لوحده تحت التراب.
... يتبع
** **
- رجاء البوعلي