قديماً كتب سعيد عقل.. «لبنان إن حكى»، وعندما يحكي عقل عن لبنان فإنه يحمّله ما لا يطيق، أو يُحكّيه ما لا يُصدَّق. فهو يرى أن فيثاغورس الرياضي والفيلسوف هو لبنانيٌ أصيل لأنه وُلد في صيدون وإن لم يعش أو يتعلم أو يُعلّم في لبنان، بل إن هوميروس أكبر شعراء اليونان هو سليل لبنان ونتاج فرادته. وما «أوروبا»، بزعم عقل، إلا صبيةٌ فينيقيةٌ حسناء من بيبلوس نقلها إله الآلهة إلى قارةٍ بدائية وقال: إكراماً لعينيك سأجعل هذه القارة الصحراوية أجمل قارات الدنيا وبإسمك أسميها. فليس غريباً، بنظره، أن يعتلي اللبناني الكسندروس ساويروس عرش رومة، في وقتٍ مبكر، وأن تكون الإمبراطورية الرومانية، حينها، شبه لبنانية بعاهلها وملكاتها ووزراءها، بل بعظمتها وجنونها.
وإذا كان يسوع قد زار لبنان، كما يؤكد عقل، فذلك لأنه يوم افتتح رسالة الألوهة في الأرض أبى إلا أن يتعمّد بمياه النهر الذي ينبع من إحدى سلسلتَي جبل لبنان، فليس غريباً، إذاً، أن تقضي كليوبترا في لبنان ما يشبه شهر العسل مع حبيبها الروماني أنطونيو؟!.كما لا غرابة أن تكون مسرحية «بيركليس أمير صور» أعظم فواجع شكسبير على الإطلاق، أوَليس فيها نكهة لبنان الخالد. كما يصدح عقل مدوياً: كنّا معلمو معلمي العالم، بل إن كل طالبٍ في مدرسة بيروت لابد أن تواكبه أمجادٌ من بيروت يستحيل أن تضارعها أمجادٌ من أية مدينة في العالم. ولهذا يؤكد عقل فشل العبورات العسكرية للفارسيين قمبيز وداريوس والآشوري نبوخذ نصّر لأرض لبنان، وتكون الطامّة باستعصائه على الإسكندر الأكبر الذي استباح العالم القديم بأسره. وأخيراً فإن عقل يتغنّى، بكثيرٍ من النشوة، بأبياتٍ من ملحمة الشاعر الإغريقي ننّوز، ينقلها كما يلي:
«لن تنمحي النزاعات الدامية المدمرة
تلك التي تفتك بالشعوب
إلا متى غدت بيروت
قيّمةً على راحة الحياة وعلى طُمأنينتها
مسيطرةً على البحر والبر
موطّدةً سبل القوانين
مستأثرةً بالحكم المطلق على جميع مدن العالم»
هكذا يحكي سعيد عقل، أو هكذا يُحكّي لبنان، بكثير من الانتشاء والإدلال، وهذا شأن العاشقين، ولا يعنيه أن يكون أسلافه جاؤوا من الساحل الغربي للخليج العربي ما بين صور العمانية وبلدة الجبيل وما بينهما. فهو مأخوذٌ بهذا اللبنان الفينيقي المتفرّد، وتلك الملاقحة المزعومة مع أوروبا ممثلةً بالأم الرؤوم، كل هذا تحت جناح المسيحية الدافئ، وما عدا ذلك هراء، فلبنان هو مبتكر الأبجدية للعالم، وما «اللغا اللبنانية» إلا سليلة تلك، وإن كان لا يفهمها إلا العرب الأغراب!!.
والواقع أن ذلك الانتشاء والإدلال قد انسحب على لبنان واللبنانيين المعاصرين طيلة العصور الحديثة.
مزيجٌ من الاعتداد والنشوة، وأحياناً التعالي، طبَع شخصية اللبناني، ورافقه في منافيه الطوعية، وجعله مفضَّلاً ومقدَّماً لدى مُضيفيه.ورغم أن اللبناني لا يتميز جوهرياً عن الآخرين القريبين لا في علمه ولا مهاراته ولا مناقبه، إلا أن لديه تلك الخلطة السلوكية المتراوحة بين دماثة التاجر ومخاتلة السمسار واستبطان الهوية المصلحية للآخر. ولقد نجح في اكتساب المعجبين والمتوهمين بتألقه وتفرده، فعاش زمناً طويلاً في بهجة هذا التألق، ولم تنجح كل العثرات والانتكاسات في تاريخ لبنان الحديث بانتزاع تلك النشوة البهيجة. فما الذي حدث واستجدّ ليدخل اللبناني في نوبة بكاء مريرة، وينغمس في مناحاتٍ يومية، لم تنفع معها ترياقات الأم الرؤوم، ولا عواطف الموهومين بتميُّزه، ولا دعوات أبنائه المستمتعين بالمنافي الرخيّة؟!.
أتُراها «العتمة الفارسية» قد ابتلعت انبهارات سعيد عقل ونشوة الفينيقيّ العريق؟!، وهي عتمة مسكونة بمهرجانات النحيب ومجبولة على استحضار المأساة وتغذيتها وتخليدها. فهل تحولت أنهار النبيذ الحضاري المعتّق إلى أنهار دموعٍ حالكة؟، وهل تحوّل اللبناني من تاجر بهجة وسمسار نشوة إلى ندّاب مصير و»رادود» عزاء.
كل كتّاب لبنان وصحفييه، تقريباً، في الداخل والخارج، بل كل من يستطيع التعبير من مواطنيه، في أي وسيلة، تحولوا إلى ندابين وبكّائين، وتلونت أرديتهم الظاهرة والباطنة بسواد الحبر الذي يكتبون فيه، فهم لا يرون بصيص ضوء في نهاية نفق هذه العتمة، وحتى «مخاتيره الكبار» صاروا لا يرون بلادهم مسوقةً إلا إلى جهنم ولا يعِدون محكوميهم بغير ذلك.
سينبري من يقول إنه لا يبكي في لبنان إلا الفقراء والمهمّشون، والحقيقة أن لبنان كله، داخله وخارجه، في حالة بكاءٍ مديدة، فهو بين باكٍ ومُتباك. بين الباكين فقراً وجوعاً وهلعاً وظلاماً وتخويفاً، وهم كُثر، وبين المتباكين مداراةً لما بين أيديهم وما في جيوبهم من أموالٍ ومصالح ونفوذٍ وسلاح، هي كلها سبب بكاء مواطنيهم ونكبتهم. أما المتباكون الآخرون فهم «الدياسبورا» اللبنانية العريضة التي لا تملك سوى بحبوحةٍ فردية ومساحة أمان، وتَجهد في مُداراتها عطفاً على شعور قريبٍ غارقٍ في أتون العتمة، أو خشيةً من غريبٍ يملك زعزعة هذه البحبوحة.
هل يطول بكاء اللبنانيين أم تعود النشوة مجدداً؟، وهل هو مجرد بكاءٍ عرضيّ أم هو استشرافٌ حادسٌ بما هو أدهى وأمرّ؟!.
قال جبران، في مرحلةٍ زمنيةٍ ألطف وأنظف: «لكم لبنانكم ولي لبناني»، فكم لبناناً سنرى؟، بل هل سنرى لبنان على الإطلاق؟!!.
** **
- عبدالرحمن بن عبدالمحسن الصالح