إبراهيم بن جلال فضلون
الحرب ظاهرةٌ إنسانيةٌ-إنسانيةٌ فقط؛ وإذا تمعَّنا أكثر نجد أنها حقل للعنف وصراع فرض إرادات.. بالتالي سُلبت منّا الحقيقة والدليل الملموس الذي خُلقنا لأجله. مما جعلنا نتصور خطأً، أن الحرب ظاهرةٌ خطّيةٌ (Linearity) يُمكن السيطرة عليها والتنبؤ بمُجرياتها، كما وصفها العالم الإستراتيجي المُنظّر العسكري «كارل فون كلاوزفيتز» في نظريته عن الحروب عبر سلسلة «البحث عن اليقين»، ضمن عنوان «نزع السحر عن الحرب»، التي هي من أقدم الظواهر في التاريخ. بل ويرى «غاستون بوتول» إلى أبعد من ذلك بقوله إنّ الحرب هي التي صنعت التاريخ ودورها في نشأة واندثار الحضارات، والتكنولوجيا، وغيرها... لما لها من أثر كبير في تحديد مصائرنا كأفرادٍ، ومؤسّساتٍ وشعوبٍ، إلا إننا لا نعرف إلى الآن كيف نخوض حرباً. بل ولا نعي أساسياتها، لينطبق الكلام حرفياً على ما تقوم به شرطية العالم غير الآبه بشيء، ولم تتعلم بتقنياتها ولا أجهزة مخابراتها ولا أقمارها التي تتشدق بها، من دول أو جيوش مصدر قوتها الإرادة كالجيش المصري (خير أجناد الأرض)، والذي تقدم تحرير شقيقته الكويت بوجود جيوش العالم، وقال عنه نبينا -عليه الصلاة والسلام- «إذا فتح الله عليكم مصر بعدي فاتخذوا فيها جندًا كثيفًا؛ فذلك الجند خير أجناد الأرض» فقال له أبو بكر: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال: «لأنهم في رباط إلى يوم القيامة».. وهنا يتزين الحديث بقول كلاوزفيتز: «أن المهاجم يجب أن يُؤمن الانسحاب قبل الاحتلال، لكن بالحالة الأمريكية الفاشلة خسر الأمريكان الاحتلال والانسحاب معاً»، ليكون الفرض الثالث أنّها قائمةٌ في حالات الحروب الأمريكية فقط على الخراب والمعاناة، وتلك دول شاهدة أقربها منا فيتنام والعراق وسوريا ولبنان ولحقتهم أفغانستان.. تلك المقبرة التي تزحف خلال المهجرين منها عبر إيران وتركيا لأوربا ثُم الأرض الأمريكية.
والحرب ليست تعويذة تدفع الشر أو تجلب الحظ السعيد، ولكنها خلاصة مفاهيم وأفكار عامة، أنكرتها السياسات الأمريكية، متسقة مع نقيضتها اللاخطيّة، لأنها في طبيعتها منظومةٌ قائمةٌ على عُنصر المُفاجأة. ولو نظرنا إلى تعريفات «كلاوزفيتز» للحرب، لوجدنا بأنها تشير جميعها إلى الحرب كظاهرةٍ غير خطيةٍ لا تحكمها قوانين العقلانيّة ولا يمكن التنبؤ بها تحليلياً، كما بالحالة الطلبانية في أفغانستان، لنقترب أكثر من تعريف «ضباب الحرب»، كحالةً نفسيّةً سببها عدم مطابقة الوقائع لما هو منصوصٌ عليه في النظرية أو الخطة الحربية، التي وصمها الانسحاب بل الغدر الأمريكي بـ «أحلك ساعة» أو «الساعة الأسوأ» إلى أفضل وقت بحوزتهم. مُعيداً للذاكرة بطريقة مختلفة بلا قصف الحرب الأمريكية ضد فيتنام الشمالية أواخر الستينيات، عندما أسقطت الطائرات الحربية أكثر من 6.5 مليون طن من القنابل وقتلت عشرات الآلاف من الناس، لكنّ الفيتناميين الشماليين لم يُفكّروا بجدية في الاستسلام.. غير أنها تركت الأرض الأفغانية وشعبها فريسة لطالبان، ليقتل الآلاف ويُشرد الملايين لاجئين بحدود ديارهم.
ولعل الخطوات الأميركية لجو بايدن، وإلغاء تفويض 2002، بإنهاء ما يُسمى بـ «الحروب الأبدية» للولايات المتحدة خطوة سيندم عليها الساسة الأمريكيون والعالميون، وبعدما حلت واشنطن محل فرنسا وبريطانيا، لترحل بعد ما بددوه بما يُقارب نحو 89 مليار دولار على التسليح والتجنيد، تاركين الأرض التي نهبوها في حالة من الفوضى والضياع بل وكثير من مناطق العالم، لتسعى قُوى الإرهاب بتعددها إلى الحلول محل أميركا المُتراجعة، بعار جيوشها وأسود يوم لها.. من أجل ماذا، وفي سبيل مَن؟!. لقد أصبحت كل التأكيدات والبيانات من أعلى المستويات بلا معنى مع زيادة عدد أفراد حركة طالبان، التي تسيطر الآن على أكثر من نصف البلاد. لنشهد أحداثاً دموية مريعة في كابل، لتربح طالبان وحدها، ويتقهقر العالم وأمريكا بعلمها الملطخ بالدماء، بل في لؤم ودم بارد، ليُكرر التاريخ نفسه. ليواصل تنظيم القاعدة وتنظيم داعش الإرهابيان، وغيرهما من التنظيمات الإرهابية الأصغر حجماً، حضورهما وفق تقرير الدعم التحليلي ومراقبة العقوبات إلى مجلس الأمن رقم S/2021/486).، وإن الوضع يوم الانسحاب، تبين أنه أسوأ من الوضع يوم الدخول، ليهرب الرئيس الأفغاني تاركاً أفغانستان مُجدداً تحت عباءة «طالبان»، التي أطلقت شرارة هجمات 11 سبتمبر وشرارات مغامرتين أميركيتين باهظتين، سترزح الآن تحت ليل طويل.
وأخيراً: إن الحروب وأعمال العنف، تنتمي بجملتها إلى المرحلة «الحيوانية» في تطور الجنس البشري، التي علاها همجية (اللا-عقل)، إذ تبدأ الحروب أولاً في العقول والنفوس ثم مع الوقت وتوفر الظروف المناسبة تتجسد على أرض الواقع. وعلى الأقوياء أن يعلموا أن ما يصنعونه يحدد مساره الفعل الإنساني، وهكذا حددت أميركا مسارها منذُ نشأتها على أجساد الهنود الأصليين بها، وحروبها المتلاحقة بالخذلان.. وعلى العقلاء إزالة بذرة العنف والدمار من عقولهم ونفوسهم، بدلاً من اللجوء إلى الوساطات وحروب الوكالة بعد انتشارها، مثل الشجرة حين تزرع بذرتها في الأرض، وتترك فإنها تنمو وتكبر، وتصبح إزالتها كل يوم أصعب مما قبله.