الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
يُعَدُّ الحسد من أعظم الأدواء التي دبت إلى هذه الأمة، ومن أخطر الأمراض الاجتماعية، وعُدَّ من كبائر الذنوب، وقد اهتم الإسلام بعلاجها لحماية الفرد والمجتمع؛ حيث جاء بسبل وأساليب عديدة تقي المسلم شر الحسد والحاسد.
"الجزيرة" استطلعت رؤى عدد من أطياف المجتمع لمعرفة السبل الكفيلة لتوعية المجتمع بمثل هذه الصفات والسلوكيات المشينة عموماً، وتطهير المجتمع من داء "الحسد" خصوصاً الذي يعدُّ من الصفات القبيحة والخلق الذميم الذي استشرى في عقول بعض البشر، وأسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تزايد حالات المصابين جراء الحسد، وكانت رؤاهم على النحو التالي:
وسائل التحصين
توضح الدكتورة نورة بنت إبراهيم الصويان أستاذ علم الاجتماع المشارك أن الحسد (أو عين الحسد) عبارة عن نظرة حاسدة تؤمن بها العديد من الثقافات وبقدرتها على التسبب بالإصابات أو جلب الحظ السيئ للشخص الموجهة إليه هذه النظرة، لأسباب عديدة قد تكون حسداً أو كراهية.
ويشير هذا المصطلح -أيضاً- إلى قوة قد تصدر من أشخاص معيَّنين تؤدي لإصابة آخرين بالعمد، والتسبب لهم بسوء الحظ عن طريق نظرة الحسد أو تمني قلة الحظ، والعين الحسودة عادةً ما تُعْطِي وتؤثر في الأشخاص دون علمهم بها.
وقد أقر الدين الإسلامي بأحقية العين والإيمان بها، بناءً على ما قاله محمد -صلى الله عليه وسلم-، "العين حق".."[صحيح مسلم، كتاب 26، رقم 5427]. كما أن التحصين ضد العين تصرف شائع؛ فبدلًا من التعبير بالإعجاب المباشر بطفل جميل مثلاً، فيجب قول "ما شاء الله"، وهذا يعني "هذه إرادة الله"، أو ذكر اسم الله على الشيء أو الشخص الذي تعبِّر عن إعجابك به.
ويعتبر مصطلح "الحسد" عند أولئك الذين لا يؤمنون بالعين، قد يرجع إما بسبب الثقافة التي نشأوا فيها أو لعدم إيمانهم بمثل هذه الأشياء ببساطة.
وتعتبر الإصابة بالعين معتقدًا شائعًا بين الناس وبأن هناك أناساً لديهم القدرة على التسبب بالضرر أو التأثير على الناس أو الحيوانات أو أي كائن بمجرد النظر إليه. وفي الإسلام، الله الواحد هو من يستطيع الحماية ضد الإصابة بالعين، وليس أي رمز أو كائن آخر، وقد حرَّم النبي محمد "صلى الله عليه وسلم" استخدام الطلاسم أو الرموز للحماية من الإصابة بالعين، وأمر باللجوء إلى الله وطلب الحماية منه لتفادي إصابة أحد ما بالعين، فغالبية المسلمين يقولوا "ما شاء الله"، و"تبارك الله" عند الإعجاب بشيء ما، وكذلك قراءة سورة الفلق، وسورة الناس من القرآن الكريم تعتبر وسائل للتحصين ضد العين بجانب الحفاظ على الصلوات الخمس واتباع السنن والنوافل التي أمرنا بها الله سبحانه وتعالى.
احتراق الحسنات
ويؤكد الشيخ عبدالرحيم بن محمد الثميري مأذون الأنكحة أن الحسد خلق ذميم، حذَّر منه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته، ونهاها عنه قال صلى الله عليه وسلم: (دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمُ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ َلاَ يَحْقِرُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ ولا يُسلمُهُ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وعِرْضُهُ)، والحسد تمني زوال النعمة عن المحسود، إذا رأى على أخيه نعمةً من الله فإنه يتمنى أن تزول عنه، لا لشيء إلا لأنه يبغضه، مشيراً الثميري إلى سبل توعية المجتمع من الحسد، بمعالجته أن تسأل الله الكريم من فضله والله واسع عليم، وأن تؤمن بالقضاء والقدر وإن ما حصل لأخيك إنما هو بقضاء الله وقدره والله أعلم سبحانه وتعالى، ولا تعترض على الله سبحانه وتعالى، لا تعترض على الله في قضائه وقدره، وكذلك مما يعالج به الحسد أن تدعو لأخيك بالبركة، بدل أن تتمنى زوال النعمة عنه، وأن تطلب الرزق مع بذل الأسباب.
وقدَّم عبدالرحيم الثميري نصائحه قائلاً:
1 - احذروا أن تحترق حسناتكم وأعمالكم الصالحة بسبب الحسد، استعيذوا بالله من الحسد، وسألوا الله من فضله، وأحبوا لإخوانكم الخير وادعوا لهم بالبركة، فالنار تأكل بعضها إذا لم تجد ما تأكله، فالحسود إنما يضر نفسه، فاستعيذوا بالله من الحسد.
2 - وطهروا أخلاقكم من الحسد، وتمنوا لإخوانكم الفضل والنعمة، بعدما تتمنون ذلك لأنفسكم، هذه علامة الإيمان، المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، هذا هو المؤمن: (لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ).
ويضيف الثميري: أضرار الحسد الذي قد يكون بين أفراد، وقد يكون بين جماعات، وربما بين بلد وبلد، أوبين قبيلة وقبيلة، فيسبب ذلك حرمانهم من المشاريع التي تنشئوها الدولة لمصالحهم، إذا تحاسدوا لم يحصلوا على شيء من المشاريع الخيرية للبلد وللجماعات وللأفراد، وكم عطل الحسد من مشاريع كانت مبذولة؟، ولو أنهم اجتمعوا وطلبوها ورغبوا فيها لنفعتهم جميعًا، فإذا تحاسدوا منعت منهم جميعًا، فصار الضرر عليهم جميعاً.
الحاسد منبوذ
ويشير المهندس محمد بن جابر السهلي بعض من الصفات السيئة للحسد والحاسدين، ومنها:
1 - بيان قبح الحاسد وذم الإسلام له في الكتاب والسنة والاستعادة منه وجعله قرينًا للشيطان.
2 - الحسد خلق ذميم ولذلك جاء التحذير منه.
3 - الحاسد يعيش حالة مرضية دائمة من تطلعه لما لدى الآخرين ويحرمه الاستمتاع بالحياة والقناعة بما رزقه الله به.
4 - الحاسد منبوذ في المجتمع وينفر الناس منه ولا يسعد أحد بلقائه ويفشل في تكوين الصداقات.
5 - الحاسد تتقطع به السبل ولا يجد أحد يساعده على أعباء الحياة ويمتد ذلك الشقاء والقطيعة والنبذ لأبنائه وبناته.
حفظ النعم
وتقول الروائية نهى بنت عبدالفتاح البوق من ضباء: من السبل الكفيلة لعدم إسناد كل حادث كوني للحسد؛ الاغتباط بولاية الله والتقوى؛ قال تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}، ولا مزايدة على ما جاء مجملاً وتفصيلاً في كتاب الله والسنة النبوية من أسباب الحسد وطرق الوقاية والعلاج، لعلنا نحفظ النعم وندرأ أسباب زوالها إن عاد المجتمع لرشده وأغلق أبوابًا شرعها على مصراعيها استعراضًا ليوميات حياته ليدرك مستجدات "السوشيال ميديا".
العواقب الوخيمة
ويؤكد الأستاذ بن عبدالله آل عثمان الخبير التربوي أن البشرية منذ فجر التاريخ، ابتليت بتفشي وانتشار داء الحسد، الذي دعا ابن آدم قابيل بعد أن اتبع هواه، وغلبته نفسه الأمارة بالسوء، لسفك دم أخيه هابيل، والتعدي عليه بدم بارد، كمدًا وبطشًا وجورًا، وفي الملأ الأعلى سجدت الملائكة كلها لأبينا آدم عليه السلام، إلا إبليس أبى واستكبر، ومنعه الحسد أن ينصاع لأمر ربه، فكان جزاؤه وعقابه الأليم، أنه مطرود من رحمة الله، خالد مخلد في نار جهنم.
وحتى نعالج هذا المرض العضال، ونستأصل شأفته، ونقضي عليه قضاء مبرمًا، فلابد من تعداد وبيان عواقبه الوخيمة، وآثاره الجسيمة، وأخطاره المحدقة للأمة؛ حتى تأنف منه وتبتعد عن طريقه.
وهنا يأتي دور القدوات، من الآباء والأمهات، وأهل العلم، وأرباب الثقافة، والمشتغلين بالإرشاد، في إرساء روح التسامح، والألفة، والتصافي بين عامة الناس، وهجر ما يعود عليهم لاحقًا بالضرر المحض.
إن تعويد الناشئة منذ نعومة أظفارهم على معالي الأمور، وشائقها ورائقها، لينأى بهم بعد حول الله وقوته عن الانجرار والانسياق خلف جملة الرذائل والطباع السيئة، والخصال المكروهة والمذمومة.
يقال: وبضدها تتميز الأشياء، فإذا ما استقر ورسخ في عقل الرجل والمرأة ووجدانهما، أن من ترك شيئًا لله عوضه خيرًا منه، حينها تهدأ روحهما، وتطمئن جوارحهما، وتستل سخيمتهما، ويسعدان بعيشهما.
النفس الشريرة
وتبين الأستاذة سمر بنت مهناء الصايل مسؤولة برنامج تطوير وتوظيف الكفاءات السعودية لشؤون الصحية لوزارة الحرس الوطني بالدمام، عضو تنفيذي لمجلس شابات الأعمال بالغرفة التجارية للدورة الحالية، أن الحسد هو الحقد وتمنّي زوال النعم عن الغير، والبغض هو أن يتمنّى الإنسان زوال نعم الله عن الغير، فيتمنّى فشل من يراه ناجحاً ومتفوقاً، ويتمنى المشاكل والنزاعات بين الأزواج المتحابّين، ويمنى فقر من يراه غنياً، والحسد يحصل من نفس شريرة غير قانعة وراضية بما قسم الله لها من النعم، بحيث تجعل الإنسان يستكثر نعم الله -تعالى، وإذا تحدثنا الفرق بين الحسد والعين نجد أن الحسد أعمَّ من العين، فكل عائن حاسد وليس كل حاسد عائن، ولذلك نرى من إعجاز القرآن البياني في سورة الفلق الاستعاذة من الحاسد، فإذا استعاذ المؤمن من الحاسد فإنه يدخل في استعاذته العائن كذلك. فإن الله قد حذرنا من الحسد وشر الحساد، وقال موصياً بالاستعاذة من ذلك: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ، وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ، وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ).
تفشي الوسائل
وتشدد الدكتورة شيمة بنت إبراهيم العتيبي مستشار الإدارة والتخطيط الإستراتيجي أن الحسد والعين والطمع وحب زوال نِعَم الله التي أنعمها الله على الآخرين صفات تَفشَّت فى مجتمعاتنا بهذا العصر، وقد ساعد في انتشارها وسائل التواصل الاجتماعي وطرقه الحديثة، وهذه صفات ذميمة حلت محل الغبطة عندما يغبط المسلم أخاه على ما وهبه الله من نعم دون تمني زوالها، وإن تزايد الحسد وانتشاره أدّى إلى تبدّل المفاهيم واختلال الموازين الصحيحة للحياة القويمة الهانئة، وقد أكد الدين الإسلامي على ضرورة التحصن بالأذكار صباحاً ومساءً، والاستعانة على قضاء الأمور بالكتمان، فقال صلى الله عليه وسلم: "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود"، وما رواه أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة.
مضيفة بأن الحسد أول خطيئة ظهرت في السموات (حينما حسد إبليس آدم)، وأول معصية حدثت في الأرض (حينما حسد قابيل أخاه هابيل)؛ فالحاسد لا يقتنع بما عنده مهما كثر بل يطمع بما عند الآخرين مهما قلَّ، والمؤمن الحق هو من تسلَّح بالإيمان وزاد يقينه بأنه لن يصيبه إلا ما كتبَ الله له وحافظ على ورده وطهارة بدنه وقلبه.
التصنيف والمقارنات
وتتساءل الدكتورة منى بنت علي الحمود أستاذ السياسة التربوية قائلة: هل منَّا من أحد لم يمارس الحسد؟ ففي المأثور " ما خلا جسد من حسد"!!، نعم إن الشعور بعدم أخلاقية قيمة الحسد يدفعنا لإنكاره عنَّا ظاهرياً لارتباطه دائمًا بمشاعر الكرة والحقد تجاه الآخرين، لكن الحقيقة تشير إلى غير ذلك، فمشاعر الغيرة والتي هي سمة طبيعية بل وخلاقة لدى الأطفال هي تنم عن حسد، فتشير الكثير من الدراسات النفسية والسلوكية أن الطفل يمارس الغيرة التي تدفعه لتحديد دوره وموقعه الاجتماعي والتمسك به كالغيرة من مولود جديد، وهي مؤشر أيضًا على النمو العاطفي السليم لدى الأطفال في مراحل عمرية معينة، كما أن رغبتنا في الحصول على المكانة الاجتماعية دائمًا ما تدفعنا إلى مقارنة ذاتنا بالآخرين!!، لتحديد موقعنا الاجتماعي وأدوارنا المناطة بنا تجاهه، وهذا ما يدفعنا للتنافس سلباً أو إيجاباً، حيث جاء في الحديث الشريف "لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها"، ويرتبط بالمكانة الاجتماعية قيمة التقدير، وهذا ما يدفعنا أيضًا للجد والتنافس على هذا التقدير الاجتماعي؛ فلو أننا كنا على مستوى واحد من التقدير الاجتماعي لفقد التقدير قيمته!!؛ فالمكانة والتقدير ترتبطان بالتصنيف والمقارنات التي تجعلنا نتطلع ونتطور من خلال الحسد.