الهادي التليلي
لم يكن المشهد الأفغاني مجرد حادث سليل مخرجات ميدانية عسكرية على أرض أفغانستان ولم يكن أيضاً نتيجة تفاهمات منذ أشهر من المفاوضات بين حركة طالبان والولايات المتحدة الأمريكية، فالمسألة أكثر تعقيداً وأكثر عمقاً من هذه التحاليل السطحية التي تجود بها علينا الفضائيات التي تستند في مرجعية تحاليلها على خبراء منحوا هذه الصفة لا من الجامعات أو مراكز البحث المعتمدة ولا من إرث معرفي أو مؤلفات وإنما من هذه القنوات ذاتها. المشهد الأفغاني يتحدث عن نفسه ولكن الكثيرين لا يقرؤونه، فالمشهد الحالي لا يمكن فصله بأي حال من الأحوال عن المراحل السابقة والتي بدأت منذ ما يزيد عن الثلاثين عاماً فأفغانستان معقل ناري في مشهد الحرب الباردة بين المعسكر الغربي والمعسكر الاشتراكي والتي تهيئ للجميع أنها انتهت بسقوط جدار برلين بين الألمانيتين وبتفتت الاتحاد السوفياتي السابق فأفغانستان التي كانت ترزح تحت الاستعمار السوفياتي هي أفغانستان التي كانت اليد الأمريكية لمحاربة العملاق السوفياتتي السابق وهي أيضاً العدو الذي بدأ يتعاظم فاختارت الولايات المتحدة وحلفاؤها محاربتها بغزوها بعد أن استضافت القاعدة وهي أيضاً أفغانستان التي دخلت مخبر إعادة الإنتاج الغربي كي تنتقل من العدو المنبوذ المطارد والقابع في سجون غوانتنامو وغيره من سجون العالم إلى حليف ووريث للسلطة في أفغانستان 2022 ، فغوانتنامو كما كشف ذلك الكثيرون لم تكن فقط مؤسسة عقابية وإنما مخبر إعادة إنتاج لساسة مدربين ولكن على المقاس.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لمَ كل هذا؟ والجواب هو زئبقية المشهد الجوسياسي العالمي في ضوء صعود المارد الصيني الجديد والذي يرفض الاكتفاء بالدور الاقتصادي في الزعامة العالمية ويريد الدخول في معركة إثبات ذات مع الولايات المتحدة الأمريكية خاصة بعد اتهامات القطبين الجمهوري والديمقراطي لها بإنتاج كورونا ورفض هذا المارد لعب دور المحايد في حرب الديمقراطيين مع روسيا والدخول في بيت الطاعة على غرار سائر البلدان الأوروبية.
الصين رفضت دور الثالث المرفوع وروسيا التي تعد العدو الخارجي الأبرز باعتبار أن تاريخ مواجهات السياسة الخارجية الأمريكية مع إيران يثبت لين المعاملة مع الديمقراطيين على عكس الجمهوريين.
وكما بيّنا سابقاً أن منظر الحزب الديمقراطي فوكوياما يعتبر روسيا الخطر الأبرز في سباق الولايات المتحدة نحو الزعامة وخصوصاً أن تدخلها كان حاسماً حسب الديمقراطيين في وصول ترامب إلى السلطة والتهديد الذي وجهه بايدن أول فترة حكمه لبوتين يسير في نفس السياق ورد بوتن عليه بتحريك الجبهة الأوكرانية مع تقارب الصين مع عدد من الفواعل في المشهد مثل إيران وغيرها التي تحاول الولايات المتحدة في الرداء الديمقراطي الإثبات للعالم والظهور بمظهر المحاصر لهم وإن كانت تحت الطاولة تنفذ معهم حسب بعضهم ما لذ وطاب من اتفاقيات لا يراها الآخرون. أمريكا الديمقراطية والمنزعجة جداً من التوسع الروسي في الحروب والمساحات الحربية الخارجية مثل سوريا والعراق وليبيا وغيرها تحتاج لأن توجه زوم التركيز وفوكس المواجهة على روسيا، وحتى يكون ذلك لا بد من إعادة إنتاج معنى المواجهة بما يستجيب للمعطيات الجديدة والتي تتحين في كل لحظة وآن
أمريكا التي صنعت الظاهرة الأفغانية المرتكزة على الإسلام المتشدِّد والذي يرتكز على مقولة الجهاد سابقاً لمحاربة الاتحاد السوفياتي السابق وبعد ذلك لتجييش العالم تحت جبتها من خلال محرقة 11 سبتمبر التي تم استثمارها كما يجب، فمن ناحية شيطنة هذا الوليد ومن ناحية أخرى التواجد بشكل مباشر ودون الحاجة إلى الحضور بالوكالة من خلال الغزو الأمريكي وحلفائه الذي استمر أكثر من عشرين عاماً وصولاً إلى تصنيع آخر لوكيل عنها هو ذاته الابن العدو والذي تعلم الدرس ودخل بيت الطاعة وذلك عندما حصل تقارب خطير في منطقة ومحيط أفغانستان بين روسيا وإيران وتغيّر الموقف الباكستاني وحضور الصين في الساحة مما جعل القوات الأجنبية ومن والاها في خطر وبين قبضة الأعداء المتقاربين بسبب الأخطاء المتكررة في السياسة الخارجية والمرتكزة على عدم مواجهة عملاقين في وقت واحد مما جعلها تهرب من كل احتمال مواجهة كبرى ثانية وهي تواجه أي تحدي مع عملاق بالمعنى الجيو سياسي.
المشهد الأفغاني إنتاج غربي دائم التحول حسب التحديات والتموقعات المتحينة وحتى الدور التركي وغيره هي مجرد نكهات اختارها المعسكران الغربي والشرقي لسد أي شغور ممكن وفي الحقيقة حركة طالبان في نسختها الجديدة نتاج أمريكي على حدود عديدة لها تقاطعات متنوِّعة مع المعسكر الغربي وفرصة لإلهاء الجوار للتفرّغ لما هو أهم.