الفكرة المترسخة في أذهان القراء عن نزار قباني أنه شاعر المرأة، فهو الشاعر الرقيق الذي يجيد اصطيادها ويحسن التعامل معها. ولا أدري لِمَ يحيدون النظر عن أشعار له في المرأة؛ يذمها ويحتقرها ويطردها من عالمه وبخاصة إذا أسَنَّت، فهو لا يتوانى عن التعبير صراحة عن نفوره من المرأة الكبيرة، فمن قصيدة (إلى عجوز) يقول:
أنا لا تحركني العجائز فارجعي
لك أربعون وأي ذكرى سيئة
وقد يجد بعض الباحثين ما يشفع لنزار في قبول هذا، لأنه قاله ولم يبلغ الواحدة والعشرين، ولم تكتمل تجربته الشعرية، ولم يتحدد توجهه نحو المرأة بعد، لأن هذه القصيدة منشورة في ديوانه (قالت لي السمراء) الصادر عام 1944. لكنه استمر في هذا النهج، فها هو في ديوانه (هكذا أكتب تاريخ النساء) المنشور عام 1981 يقول من قصيدة (حوار مع امرأة على مشارف الأربعين):
صحيحٌ أنَّ التاريخَ يعيد نفسَه..
ولكنَّ الأنوثةَ - يا سيدتي- لا تعيدُ نَفْسَها أبداً..
إنها شرارة لا تقبلُ النسْخَ والتكرارْ..
هذا ما كنت أشرحه لك وأنت في السادسة عشرة..
يوم كانت الشمس لا تغيب عن ممتلكاتك..
وجيوشك تملأ البحر والبر..
ويستمر على هذا الدأب حتى في عام 1991 حين أصدر ديوانه (هل تسمعين صهيل أحزاني؟)، فيقول من قصيدة تحمل عنوان (10 رسائل إلى سيدة في الأربعين):
إذا ما وصلتِ إلى عامكِ الأربعين
ستفتقدين جنوني
وتفتقدين الرحيل معي في قطار الجنون
وتفتقدين الجلوس معي في مقاهي الجنون
وتفتقدين تراث النبيذ الفرنسي
وتفتقدين فتافيت خبز الباغيت
وتفتقدين فنادقنا في بلاد الحنين
وتسترجعين ملامح وجهي
ولكن من الصعب أنْ تستعيدي جنوني
ولا يُدرى لم لن تكون هذه المرأة قادرة على التمتع بما ذكر نزار حين تصل للأربعين؟ أتكون قد أصيبت بالخرف فلا تتذكر؟ أم سيحرمها مما يمتعها بسبب كبرها في نظره؟َ! ألم يعودنا على الزهد من الرفيقات، والندم على تلك الرفقة؟ ها هو في قصيدة (إلى ميتة) يعبر عن نهاية العلاقة مع إحداهن، ويصف فترة هيامه بها بالسخيفة:
انتهت قهوتنا
وانتهت قصتنا
وانتهى الحب الذي كنت أسميه عنيفا
عندما كنت سخيفا..
وضعيفا..
عندما كانت حياتي مسرحا للترهاتِ..
عندما ضيعت في حبك أزهى سنواتي..
ويزول عجبنا من تقلب مزاج نزار إذا عرفنا أنه لم يقصد امرأة بعينها في كل - أو معظم - ما كتب عن المرأة. يقول د.أحمد حيدوش: «من العبث أيضا البحث عن امرأة بعينها في شعر نزار قباني، فهو لم يلجأ يوما إلى تخليد واحدة من نساء الواقع اللواتي عرفهن دون أن يسدل عليهن ستارا ويحولهن إلى رموز، المرأة عنده مثال جمع فيه صفات العديد من النساء اللواتي عرفهن. والمرأة في شعره شأنها شأن المرأة التي نشاهدها في الحلم؛ فيها عناصر من مجموعة من النساء، ومن الصعب تحديد هويتها».
وإذا كان المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس في عصره؛ فإن نزاراً لم يبعد عنه في هذا الجانب، فالنقاد حين يتعرضون لشعره لا يستطيعون الفكاك عن شخصه. وقد عبَّر - هو - منذ وقت مبكر عن استيائه ممن يهتم بشخصه بدلا من شعره، فقال:
الناس في بلادنا السعيدة..
لا يفهمون الشاعرا..
يرونه مهرجا.. يحرك المشاعرا..
يرون قرصانا به..
يقتنص الكنوز والنساء والحرائرا..
يرون فيه ساحرا..
يحول النحاس في دقيقة إلى ذهب..
ما أصعب الأدب..!
فالشعر لا يقرأ في بلادنا لذاته..
لجرسه..
أو عمقه..
أو محتوى لفظاته..
فكل ما يهمنا
من شعر هذا الشاعر..
ما عدد النساء في حياته؟
وهل له صديقة جديدة؟
فالناسُ..
يقرؤون في بلادنا القصيدة..
ويذبحون صاحب القصيدة.
** **
- سعد عبد الله الغريبي