هناك في آخر المنفذ المؤدي إلى عينيك أقف حاملة حقيبة كبيرة متسعة بما يكفي الوجع، حشرت داخلها دفاتر العمر المؤرخة، وزجاجات الفقد الذي كان على هيئة رائحتك المتشبثة بأهداب المساء وستائر الحجر المتجهة نحو الظلام.. أذكر بين ما أودعته حقيبتي تلك الطرقات التي عدت منها مراراً، تارة أتدثر ابتسامة باهتة تخفي خيباتي، وأخرى أباعد الخطوات حتى يتسنى للدمع مفارقتي قبل لقاء ذي عذل.. وقبل أن أحزمها تعثر شريط ذكرياتي بتذكر خروجك النهائي من سنوات الغياب والتشظي، وعودتك إلي أنا.. نعم أنا التي دائما تقول لها: أنت وطني وعيناك بوصلتي عندما أتيه في غابات الفقد، وقلبك مدينتي الخضراء، ومستقر عبثي.. امتلأ المنفذ بالدقائق المشتتة بين هنا وهناك.. سرعان ما نظم منها الانتظار ساعة ثم أخرى ثم ثالثة، وأنا وعبء السنين الخمس نتشارك المقعد الخشبي يعلونا عمود إضاءة كأنما كان مسلطاً لكشف ما تيسر للناس قراءته من وجع الدهر على وجهي.. قبضت حفنة من الصبر.. حثوتها في وجه الوقت الذي يتسكع أمامي بثقل واستفزاز، ومثلها أخرى حثوتها في الوجوه المتربصة لتعابير وجعي.. يبدو أن هذا المنفذ لم يشهد تعاقب الليل والنهار كما هي الأمكنة الأخرى.. يخيل لي وأنا أحرك حقيبتي لكسر روتين التسمر في ذات المكان، يخيل لي أنه متواطئ مع ساعات الانتظار أو بينهما اتفاق يضمن لكليهما استمرارية وجوده. فكل ما حولي يشير أن أحداً صلب عقارب الساعة، وأوقف تنفس الوقت، وخنق الثواني فماتت في مهدها.
بعثت له الرسالة السابقة وعادت سريعاً.. أخذت الكعك وبقية المعجنات وطاولتها الصغيرة واصحطبت طفليها اتخذت لها مكانا تبتاع أشياءها في ذات المنفذ.
** **
- كفى عسيري