د. شاهر النهاري
لم يستطع أي قانون إلا لو كان شرفياً أن يثبت مصداقية وشفافية السير، التي يكتبها البعض عن سيرتهم الذاتية، أو من يكتبون السير الشخصية لغيرهم من الكبار أو المشاهير، أو من الأثرياء القادرين على الدفع لصنع سيرة على أوراق ملونة وحروف مذهبة، وسط غلاف من الجلد المفخم.
السياسيون هم أكثر من يكتبون أو تكتب سيرهم، وقد يكون مسارهم أقرب للتتبع، بما يوجد في أرشيف الإعلام وذاكرة الشعوب، ومما يمكن تتبع خيوطه، ومعرفة مصداقيته من عدمه، لدرجة أعظم من غيرهم.
والكارثة أن الكل يكتب وينشر، والبعض ينتقد، والبعض يمر عليها مرور الكرام، ثم يستخسر الرد أو النقد لمعرفته أن أي كلمة تقال، لا شك ستزيد من شهرة صاحب السيرة، فيصمت حينما تبلغ النرجسية والخيالية درجات لا يمكن لملمتها.
ومن يكتبون سيرهم الذاتية قد يكون لهم من القدرات الفكرية ومن الأغراض ما لهم ليقوموا بتلميع الزوايا، وتعديل ما يلزم، وقص ما يخزي، والانتقائية العجيبة، لبلوغ الكمال ولو بالتراكمية والأقدمية.
وحينما يستشهدون بأحد ففي الأغلب أن يكون صديقا كاتماً للسر يشمله ما فيها من المديح، أو أنه قد ارتحل عن الدنيا، فلا يمكن الاستيضاح منه.
وبعض أو كثير ممن يكتبون عن الآخرين، إما أن يكونوا مدفوعي ثمن الحبر والقلم والمديح وقدرة التركيب، والتعليل، والتنويه بالأجمل، وعصر المشاعر، لتبدو إنسانية، أو أن يكونوا معتمدين على مراجع ثابتة الحقائق، وهؤلاء يندر وجودهم.
والمعضلة العظمى هم كتاب سيرة الراحلين، وخصوصا لو كانوا قد عاشوا في زمن مختلف عن عصرهم، ولم يكن أمام الكاتب إلا تلقط الحكايات ممن قد يكونوا حضروا أو سمعوا بعض ذلك، ولو أن الزيف، لا بد أن يكون مهيمناً على السيرة، مهما حرص الكاتب على مصادره ومراجعه، والتي ينتقي منها ما يكمل هيكلية فكرته هو، ولن يتناول أو يطرح ما يمكن أن يسيء إلى من كتبت عنه السيرة بمقولة «اذكروا محاسن موتاكم».
هل يعقل أن تكون سيرة زرقاء اليمامة بنفس ما نقل عنها من قدرات أعجب من العجب، يقف أمامها الطب حائرا فاشلا، وتقف عندها الجغرافيا مستحيلة، لمدى الرؤية بين التباب والأودية المتباينة المعروفة في أرض اليمامة، فلا يزيد مدى الرؤية على مسافات بسيطة تنتهي باختلاف المكان!
وهل يعقل أن يكون عنترة بن شداد بهذا القدر من القوة العضلية والبطولة والشجاعة والدموية ليجندل المئات والآلاف من المقاتلين الشداد، وكأنهم حشرات، ودوما يظل لديه من الوقت والمزاج والشاعرية ما يجعله يبدع أبياته الغزلية وهو في خضم معاركه!
وهل يعقل أن يكون لجحا ألف مكان، وألف ألف موقف فكاهي، ليغدو حكاية للشعوب، بما قيل وأعيد عنه، وكأن من كتب عنه ملاصق له حتى في وقت نومه يدون أعماله وأقواله وأحلامه، ويحسب أنفاسه!
وهل من الممكن تعظيم سيرة سياسي لم يكن له فيها مسار بحث وتميز أو قيمة شعبية أو نظرة إصلاحية، ولمجرد أنه مبجل منذ صغر سنه، وأن ملعقة الذهب تلمع بين أسنانه، دون أن يظهر إشعاعها في جبهته وعينيه؟
الكتاب هنا لا شك بالغوا حتى طمرت مبالغاتهم كل زبى، وقد يكون لهم أعذار بأنهم إنما كانوا يحاولون كتابة ما يشد ذائقة القراء، وما يصنع التماثيل ويزيد من العجب، وبما لا يعود الخيال فيه منفصلا عن واقع هزيل، ربما كان وربما لم يكن بكامل الافتقار.
بعض كبار الكتاب والسياسيين كتبوا سيرهم بأنفسهم، وزادوا بها أحمال رفوف المكاتب، وقد يكونوا قد استخدموا فريقاً ممن يكتب لهم، وبأرخص أو أغلى الأسعار، فسيرة تختلف عن سيرة، وكذبة تختلف عن كذبة، وتحويل (الفسيخ إلى شربات) معجز، وتظل المصداقية نادرة، وخصوصا أن أغلب أصحاب السير، يريدون كشف ما كانوا فيه مستبصرين مبادرين، وما يدلل بقوة على عصاميتهم ونجاحهم بعد معاناة عظيمة، ولكنهم في نفس الوقت يحجبون ضوء الخوف الصادر من الأماكن المعتمة، فتكون السيرة كاملة مجملة تؤدي لمنتهى العظمة.
الكلام هنا فيه بعض العمومية، وسيأتيك من يتهمني بأني أرفض السير، والكتابة عنها، وذلك ما لم أقصده، فأنا أريد ممن يكتبون السيرة أن يكونوا صادقين متتبعين لأصول البحوث العلمية، وأن يكونوا قريبين من الحدث، ومن الشاهد على العصر، فلا يأتون بالمعلومات من مصادر ظنية مقطوعة أو مدعية، أو مهزوزة، أو بصنعة ذكاء سردي، في محاولة منهم لإضفاء الكمال أو القدسية على من يكتبون عنه، وأن يعد السيرة التي يكتب عنها جزءاً من بحث علمي، يسهل التحقق من مصداقيته، ومزامنته، فلا ينفخوا البلالين، ولا يوزعوا الحلويات، ويراكموا الزهور حول شواهد مقابر التراث الخالية من الجماجم!
السيرة الذاتية عندما يحكيها صاحبها، يصبح مسؤولا أمام الجميع، بما يجدونه فيها من حقائق أو خلل، وبما يمكن مناقشته، والاعتراض عليه من قبل من عاشوا الحدث عن كثب، ولكن حينما يكتب السيرة للغير شخص بعيد عن الزمن أو الشخص، يصبح بالأمر ما به من أسئلة، قد لا نجد من يجيب عنها.
والسؤال الذي أتوقعه: هل كتبت سيرتي؟
وأنا أعرف أن سيرة الكاتب تظل رفيقة لدربه فيما يكتب أدبياً، فيجد نفسه في زوايا الأعمال الروائية، ومرات قد يظهر بالكامل أمام أعين القراء، ومرات يختبئ ويظهر طرف أو أنمل منه، أو أنه قد يظهر الكثير، وقد يتعرى ويهرش طالما أنه يكتب عن أشخاص وأسماء بعيدة عنه، وقد يحاول تشتيت القارئ، في بعض الأوقات، حتى لا يظهر الوشم على صدره وجزء من عنقه، ويظل يبدع في الخفاء.
كل شخوصنا مختلطة، لا يمكن الفصل بينها إلا على طاولة طبيب نفسي بارع في التنويم المغناطيسي، ونحن نرتاح له، ونعتقد بأن أسرارنا معه، تدفن وسط قمقم جوهري، في بحر الظلمات.
والقلة من الكتاب لا يجدون في سيرتهم ما يمكن التنويه إليه، فيخلطه بمياه الخيال، ويعيد خلطه بخميرة الورم والانبثاق، وربما يخبز الكثير منه، ويقدم للنشر ما لا يؤكل، خصوصاً لو جارت على أطرافه النيران، واحترق.