عبدالرحمن الحبيب
عندما قدم السفير البريطاني، اللورد ماكارتني، نفسه أمام الإمبراطور الصيني تشيان لونغ عام 1793، حاول إقناع مضيفيه الصينيين بأهمية التواصل بين الثقافتين.. قال الإمبراطور لماكارتني: «تمتلك إمبراطوريتنا السماوية كل الأشياء بوفرة، وبالتالي ليست هناك حاجة لاستيراد المصنوعات من البرابرة الخارجيين مقابل منتجاتنا الخاصة». توقع ماكارتني أن الإمبراطور سيكون مهتمًا بالصناعات الغربية مثل الساعات الميكانيكية، لكنه فوجئ بالاستخفاف به وبالمنتجات التي جلبها معه. في دفتر يومياته، شبه ماكارتني الإمبراطورية الصينية بـ «رجل حرب قديم ومجنون من الدرجة الأولى»، والذي «ربما، لا تغرق تمامًا.. قد تنجرف بعض الوقت كحطام، وبعد ذلك ستتحطم إلى أشلاء على الشاطئ، لكن لا يمكن إعادة بنائها على الأساسات القديمة»؛ بالمقابل لم ير الإمبراطور في الإنجليز سوى أنهم «برابرة»، مما صدم اللورد المتغطرس.
المشكلة ليست في المنتجات الغربية التي يتفوق بها الصينيون على الأوروبيين آنذاك، بل في عدم فهم الصينيين عن سبب رغبة الغرب في التجارة معهم، واختلاف فهمهم لمصطلحات مثل: السلام، الدين، الدولة، الدبلوماسية.. فمثلاً رأى الصينيون أي سفارة أجنبية على أنها تقدم «إجلال» للإمبراطور، وإلا لماذا يقدمون له الهدايا؟
قبل ذلك بقرون أدرك البابا إنوسنت الرابع وملك فرنسا أنه ينبغي التوصل إلى نوع من الاتفاق بين الغرب المسيحي والحاكم المغولي للصين بالقرن الثالث عشر، لمنع أي غزو على محيطهم؛ كتب البابا عام 1245م إلى الخان العظيم جويوك، يخبره أنه يجب أن يطيع إرادة الله، ويخضع للمسيح، ويوقف غاراته على الأراضي الأخرى؛ أخبره الخان ببساطة أن مشيئة الله هي أن المسيحيين من جميع البلدان يجب أن يخضعوا للمغول.
ما تقدم يُظهر «مثالًا نموذجياً لنظامين لهما وجهات نظر للعالم تبدو متباينة تمامًا»؛ حسب أستاذ اللغات الأجنبية بجامعة تايوان الوطنية مايكل كيفاك في كتابه الشيق «السفارات في الصين: الدبلوماسية والصدامات الثقافية قبل حروب الأفيون». الكتاب يعطي مقدمة مفيدة لموضوع مهم حول بدايات التواصل بين الصين وأوروبا (الشرق والغرب) الذي زاد الاهتمام به هذه الأيام، كما أنه يساعد على فهم معوقات التواصل بين الثقافات، رغم أن الكتاب يتناول الحقبة بين عامي 1248 و1720م.
يناقش الكتاب المفاهيم المختلفة للحرب والسلام والإمبراطورية والتجارة والدين والدبلوماسية كنقاط محورية في العلاقات المتبادلة بين الصين وأوروبا عبر فحص خمسة لقاءات مع فرنسا والبرتغال وهولندا والبابا وروسيا. في العصور الوسطى، كان «السلام» ضروريًا للغرب.. في القرن الخامس عشر بدأت البرتغال غزواتها وارتبطت بكلمة «إمبراطورية».. والبابا ارتبط بكلمة «الدين» حيث أرسل البابا كليمنت الحادي عشر (1700 - 1721) بعثة تبشيرية.. أما هولندا فارتبطت بكلمة «التجارة»، إذ أرسلت أول بعثة رسمية لها عام 1655، مطالبة باتفاقية «تجارة حرة»، لكن الصين كانت متفوقة وليست بحاجة لهم، ولم تفهم الافتراض الهولندي بأن التجارة «وسيلة مستوحاة من الله يمكن بواسطتها أن يكتسب جزءاً من العالم ما ينقصه من جزء آخر».
يختم الكتاب اللقاءات بروسيا التي ارتبطت بكلمة «الدبلوماسية»، سارداً البعثات الروسية في أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر، لكن روسيا تختلف حيث إنها في المحيط الصيني ولا يُنظر إليها كبلد غربي صرف.. كما أن الصين كانت بحاجة للحفاظ على توازن قوى مع جارتها الروسية.. فاختارت الصين منح روسيا حقوقًا تجارية معينة مقابل عدم تدخل الأخيرة في آسيا الوسطى..
كان الدين نقطة خلاف رئيسة، الغربيون اعتقدوا أن دينهم هو الحقيقة البديهية الوحيدة، بينما لم يكن لدى لغة الصينيين كلمات تشير إلى «الدين» أو «الله»؛ أما الكونفوشيوسية والطاوية والبوذية فهي تعاليم ومبادئ أخلاقية تمارس في الصين، وشكلت أساس الحياة الاجتماعية.. ومن يتبع هذه التعاليم مثل طاعة الوالدين، فهو حرّ فيما يعتقده من دين.. الغربيون فشلوا تمامًا في فهم هذا الأمر كما يشير الكتاب..
من خلال الزوايا الثقافية والسياسية، يخبرنا الكتاب عن الجهود البرتغالية والهولندية والبابوية والروسية لفتح علاقات تجارية مع الصين، وكيف بدأ الغربيون، من خلال المصالح التجارية البحتة، في تأكيد أفكار الهيمنة والتأثير الإمبرياليين على الصين، والتي ستؤتي ثمارها في القرن التاسع عشر. إذن، هذا لم يكن فقط صراع ثقافات بل إن كلا الجانبين كان لديه أهداف متعارضة.. لكن كيفاك يرى أن الصين في كل المواجهات أو اللقاءات بتلك الحقبة تمكنت من فرض وجهة نظرها على الغرب أكثر بكثير من العكس، وكان التفوق السياسي والاقتصادي والثقافي للصين.. ربما يرجع جزئيًا إلى أن السفارات كانت دائمًا إلى الصين وليس العكس، مما يمنح الصينيين ميزة المكان، رغم أنه كان للصينيين مبعوثون للغرب لكنهم نادرون..
أهم ما يستخلص من الكتاب أن المفاهيم التي طرحها الأوروبيون اعتقدوا أنها أمور مفروغ منها وفقاً لرؤيتهم ومعاييرهم التي اعتبروها رؤية عالمية، ولم يدركوا أن للصينيين معاييرهم الثقافية ومعتقداتهم الخاصة المختلفة عما لدى الغرب، فلم تنتقل بنجاح إلى العالم الصيني. سوء الفهم المتبادل لمعاني هذه الكلمات أدى إلى فشل السفارات الغربية لدى الصين. والآن، ألا يبدو أن هذا الأمر مستمر بشكل من الأشكال إلى يومنا هذا، رغم مضي قرون على تلك الحقبة؟