أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: من أبرز الشخصيات التي أثرت في مسار حياتي ممن أدركتهم: الشيخ (صادق صدِّيق أزهري) من مصر باقعة في علمه ولذاذة معشره رحمه الله ورضي عنه حياً وميِّتاً، ثم الشيخ (صالح ابن غصون) رحمه الله، ثم الشيخ (محمد بن عبد الرحمن بن داوود) رحمه الله وأنا أكثر له ملازمة، وقد سميتُ ابني (داوود) رحمه الله لباعثين هما: داوود الظاهري، واللقب العائلي لشيخي محمد رحمهم الله، ثم الشيخ عبدالرزاق عفيفي، وعمر المترك، وعبد الفتاح أبو غدة رحمهم الله.. وشيخنا عبد الفتاح تطاول عليه أشباه العوام، وتمعلم عليه الصغار، وظُلم في آخر حياته وهو مقصوص الجناح لاجئ في غير بلده؛ فصبر واحتسب.. وأعلمه - ولا أزكي على الله أحداً - إماماً فحلاً ممسوح الغرة، رائداً في تحقيق النصوص لا يُشق غباره، متثبِّت فيما يكتب.. أتحدى أي ظالم لنفسه في حقه أن يجد في كتبه ما يُخل بدينه وعلمه وورعه، وهو حنفي لن يبيع قناعته، ويعتقد ما يعتقد من مذهب أبي الحسن الأشعري رحمه الله، وهو متعبَّد باجتهاده لا بتقليد غيره، وعنده زهد وصفاء ورياضة، وليس ذلك من التصوف البدعي العقيدي؛ فالحمد لله الذي حَقَّق أمنيته بدفنه بجوار المصطفى صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة.. ولولا أن شعرتي سوداء عند طلبة العلم بسبب ظاهريتي وولعي بالفن آنذاك: لنصرته نصراً مؤزَّراً في حياته.
قال أبو عبدالرحمن: وأما من لم أدركهم فلا أعدل بإمام دنياي (بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وخيار التابعين رضي الله عنهم) الإمام أبي محمد علي بن أحمد ابن حزم أحداً وإنْ لم يحصل الوفاق معه في كل (بل في أكثر مسائله)؛ لأنه علَّمني حرية الفكر، والتطلُّع إلى تنوُّع المعرفة، وأن أكون على سجيتي لا أبالي بنقد ناقد.. وإن كنت أسرفتُ في ذلك؛ فأضرَّ بي ذلك أي إضرار.. وتعلمت منه التبويب المنهجي، وأن لا أكون في أحضان شويخ أُقَلِّده.. وكما حلَّق بي في معارف معيارها الحق والخير حلَّق بي في معارف معيارها الجمال حتى اخترت ذلك في الزِّي الذي ألبسه؛ ففطرتُ على حبِّ الجمال والشوُّق إليه سماعاً ورؤية مع رياضة شرسة نَكِدَة لا أزال أُعانيها ؛ لتستقيم حقائقي وديني وأخلاقي، وآليت على نفسي أن لا أتمظهر للناس بما يعلم ربي مني خلافه إلا ما يجب فيه الستر، وقد ماتتْ والدتي مبكِّراً؛ فلم أنعم بتربية النساء (وهي أدقُّ من تربية الرجال في الصِّغَر)؛ فكنت غير مبالٍ فيما أقول وأفعل، وقد أضرَّ بي ذلك كثيراً في التصريح بالتهويمات أيام مراهقتي الفكرية.. واكتسبتُ من أبي محمد رحمه الله سلاطة اللسان فما زلتُ أروض ذلك بتجدُّدِ الورع مع تقدُّم السن.. وكنت أحب الدعابة والتنكيت حتى على مشايخي في الدرس؛ فآذاني بعضهم، وأحسن تربيتي بعضهم، وشاركني بعضهم هزلي (ومن البلية ما يضحك)؛ حتى صار لي صديقاً.. أقول لأحد مدرسيَّ بشقراء إذ قال لي: (أين الكتاب)؟.. قلت: نسيته في أبو مخروق.. فأين أبو مخروق بالرياض عن شقراء بعد انعطاف عُريق البلدان إلى الشمال؟!.. فهذا أقل دُعابتي!!.. وعلمني أبو محمد رحمه الله ما سبق به عصره من التدقيق في قُوَىَ العقل والمعرفة، وتحقيق ما هو معرفة وما هو وَهْمٌ، ثم استكملتُ بعد الله بغيره كالفيلسوف ديكارت زعيم المدرسة العقلية، وهيوم ولوك زعيما المدرسة الحسية، وكانط زعيم المدرسة النقدية.. ومن تأثير الإمام أبي محمد رحمه الله في تربية حِسِّي الجمالي: أن كنتُ مرهف الحس بالجمال جدّْاً.. يؤذيني النشاز في الفن قبحاً، وأكعُّ مما ليس هو قبحاً ولا جمالاً مما هو في لغة الجمال بارداً باهتاً، وفي لغة العوام ماصلاً.. (قال أبو عبدالرحمن: الماصل عامِّية لعلها مأخوذة من الماصل بمعنى اللبن القليل إذا حلبه لك الراعي؛ فتضطرُّ لزيادته بالماء فيكون طعمه غير لذيذ.. وفي الفصحى أيضاً الجمعوس اليابس ماصل.. وفي أمثال اعامة: أمصل من فص العنصل، وهو بصل البر لا طعم له) خانساً.. (قال أبو عبدالرحمن: الخانس طعام لا ملح فيه، ولعل أصله من الفصيح الغياب.. أي غياب تأثير الملح، أو أن النفس تنقبض عن طعام بلا ملح؛ ففي الفصحى الخنوس بمعنى الانقباض)، وفي اللغة الفصحى سَمِجاً؛ ولهذا كان ذوو السماجات عُرْفاً على الممثِّلين في العصر العباسي.. ومن كثِّ البثِّ ما ذكرتُه في (الورطة الوذحيَّة) بكتابي (انفعالات صحفية) موافقتي لأبي محمد في صفات جِبِلِّيَّة مصادفةً، وأذكر هنا من باب التَّحدُّثِ بالنعمة: أنني فطرتُ على رحمةٍ للمخلوقات رحمةً تكاد تُمْرضني؛ فإذا خلوتُ بنفسي تفاءلتُ برحب المنقلب عند الله سبحانه وتعالى؛ للحديث المسلسل عند ذوي الفهارس والأثبات: (ارحموا مَن في الأرض يرحمكم من في السماء)، وجُبلتُ طبعاً لا تصنُّعاً - حتى عَدَّ ذلك بعض الناس مِنَ السَّفَهِ - على السماح بالمال والجاه، وأنني لا أبيتُ حاقداً على أحد، وإذا غضبتُ جئتُ بآخر ما عندي حتى رُضْتُ ذلك بالتجلُّد والصبر.. وإبداء المكنون حال الغضب (وإن كان غير محمود) دليل على حسن الطويَّة.. ولقد ظلمني أناس من ذوي الخير والصلاح فأبحتهم في حياتهم وبعد مماتهم، وقلتُ في نفسي: يا رب هؤلاء أبيحهم لأنهم من ذوي الصلاح العابدين لك فيما يظهر لي؛ فأنا أسامحهم من أجلك؛ فهب سيئاتي لحسناتهم.. وبقي أناس قلة لم تسمح نفسي بعد بإباحتهم لعظم ظلمهم لي ؛ ولأنه لا يظهر لي -والعلم عند الله- إلا أنهم من شرار خلق الله ؛ فأنا أكرههم لذلك.. وقد أُحسُّ من نفسي في قليل من المرات الرضا بمصيبة من ظلمني؛ فأعالج ذلك بالإنابة والاستغفار والتعوذ واستحضار عِظَمِ أمر الشماتة.. ولم أستفد من الإمام أبي محمد جِدَّه في إنجاز العلم ونشره؛ بل استهلكتني المقالات الصحفية غير المباركة، فلم أُنجز ترميم موسوعات كانت حبيسة الأضابير منذ أكثر من ثلاثة عقود، ومن مطلع هذا العام باشرتُ الجدَّ والعزيمة في إكمالها.. وتأثرت بالإمام أبي محمد في الصراحة والصدع، ثم تتلمذتُ على الأئمة ابن فارس والراغب الأصفهاني في الاشتقاق اللغوي المعنوي، وعلى الأزهري والزبيدي صاحب (تاج العروس) في الاستيعاب اللغوي، وأخذتُ من لَوْثةِ زكي مبارك بنصيب، واقتضبتُ جمالاً من الإيقاع اللذيذ لطه حسين وكُتَّاب مجلة (الرسالة).. وأُعْجَبُ بعلم محمود شاكر رحمه الله وأَمَلُّ من إطنابه، ولا أطيق العقَّاد، وأحب الرافعي ولا يعجبني أسلبه، ولا أطيق المنفلوطي مضموناً وأسلوباً، وأرشُف بسمعي ونظري العباس بن الأحنف والبحتري والشريف الرضي ومهيار الديلمي، وإبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، وأحمد رامي زجلاً.. واستجدَّ لي في دنيا الفن (يا معذبي) و(البارحة)؛ فنسيت (الطير المسافر) وأشباهها، وإلى لقاءٍ قادم إنْ شاءَ الله تعالى, والله المُستعانُ.
** **
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -