خالد بن حمد المالك
من لي بأم بعد اليوم تسأل عني، وتخاف علي، وتدعو لي، وتنصحني، وتوجهني، وتقوّي من عزيمتي، وتظل قلقة عليّ إلى أن تراني، ولا تصدق فيّ قولاً إلا ما كان فيه ما يرفع الرأس، ويتناغم مع اقتناعاتها بي، وسعادتها مع كل تصرف يصدر مني وعني.
* *
من لي بأم بعد وفاة أمي، لا ترى فيَّ إلا ما يتسق مع جمال روحها، وبما تعكسه تربيتها لي منذ صغري وإلى أن تقدم بي العمر، كما لو كنت لا أزال طفلها المدلل، دون النظر إلى السنوات التي مضت وانقضت من عمري، لتظل كما هي الوالدة الحنون، التي ليس في قاموسها فوارق بين أن تكون رضيعًا فطفلاً فشابًا ثم ما بعد ذلك.
* *
دلوني على أم كأمي - وما أكثر مثيلاتها من أمهاتكم - تظل وجلة وخائفة إلى أن ترى ابنها في كامل صحته وعافيته، تصغي لصوته، وتتأثر بكل حركة تصدر منه، بإعجاب الأم الفخورة بابنها، ما جعلنا كأبناء نتلمس رضاها، ونسعى لكل مصادر سعادتها لنرضيها، ونزيل منها وعنها كل ما يعكر مزاجها.
* *
كانت أمي - رحمها الله - شخصية مبهرة، وأنيسة المجالس، وصاحبة حديث مشوق، تروي من القصص والروايات عن الماضي شعرًا ونثرًا ما لا يعرفه إلا القليل من المعمّرين في جيلها، وتحفظ من القرآن سوراً كثيرة، رغم أن عمرها قد تجاوز القرن، ما يجعلها من القلائل في شبابها الذين حفظوا من القرآن تلاوةً وتجويدًا ما يساعدهم على أداء الفروض والسنن.
* *
كانت أمي سخية في كرمها، ومساعدتها للمحتاجين، بل إنها تحض أبناءها وبناتها وأسرتها على ذلك، وكثيرًا ما كانت تقول «أنفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب» وتزيد على ذلك بمواصلة تتبع ما يفعله أبناؤها وبناتها لمعرفة الاستجابة لنصحها وتوجيهها في ذلك، ضمن سلوك جميل كانت تتصف به في حياتها.
* *
ولوالدتي احترامها الكبير في الأسرة، فهي أمهم جميعًا، بحسب ما كان أفراد الأسرة يرددونه على مسمعها ومسمعنا، لكونها أكبر المعمرات في أسرتنا، ومكان اللقاءات عندها، إما بالمصادفة، أو بالتخطيط، وكان زوارها يجدون في مجلسها رحابة الصدر، والتقدير الجم، والشعور بالرضا مع كل زيارة لأي منهم.
* *
وكانت منذ بواكير شبابها تتردد على مكة المكرمة، معتمرة أو حاجة، إلى أن أقعدها المرض، وتصوم كل اثنين وخميس والأيام البيض، والأيام الستة بعد رمضان، فهي عابدة خاشعة، تمارس عباداتها دون تزمت، وتخشى الله، وتسعى إلى رضاه.
* *
سألتها قبل يوم من وفاتها عن إمكانية أن نأخذها إلى المستشفى لإجراء بعض الفحوصات لها، فكان جوابها (يا قوك يا خالد!) دليلاً على ممانعتها، بل إنها أضافت لتأكيد عدم استعدادها لتحقيق رغبتنا، بأنها لن تغادر غرفتها وسريرها إلا إلى القبر، وهو ما حدث، فقد وصل الإسعاف إلى المنزل لينقلها إلى المستشفى، لكن الوفاة كانت أسبق من نقلها في سيارة الإسعاف إلى المستشفى.
* *
في وفاة والدتي، لا يمكن أن أكتب عن حزني وجزعي، وتأثري الكبير في وفاة سيدتي، دون أن أشير إلى رعاية شقيقي عبدالعزيز وزوجته أم أيمن للوالدة على مدى عقود من الزمن، وما وفَّراه لها من راحة واستجابة لتحقيق كل ما يسعدها في حياتها، مما كانت تستوجب حالتها الصحية من حضور دائم وتوفير جو لإسعادها.
* *
كما أخص بالذكر والشكر شقيقتي زينب التي لم يمنعها مرضها من أن تكون قريبة من والدتها في حنان وعاطفة واهتمام كبير والشكر موصول إلى شقيقتيّ بدرية وفوزية على حدبهما على والدتنا، وحرصهما على تتبع حالتها الصحية، ومرافقتهما إلى المستشفى منفردتين أحيانًا ، ومع شقيقي أحمد أو عبدالسلام أحيانًا أخرى، ويأتي إخواني وأخواتي وكل أفراد الأسرة، فقد كانوا جميعًا ولا أستثني أحدًا منهم في خدمة الوالدة، ولكل منهم مواقف في المحافظة على حالتها الصحية إلى أن وافاها الأجل.
* *
وإذ تموت أمي، فإنها كانت وستظل في أحداق عيون أسرة المالك، في قلب كل واحد منها، يذكرون ويتذكرون كل ما كان تفردًا فيها، من كرم، وشهامة، ومحبة للجميع، وسؤال منها لا يتوقف عن أحوال الأسرة، والمعارف، وكل المحبين.
* *
رحم الله والدتي وسيدتي نورة الصالح العبدالله الخريجي، وجعل مسكنها روضة من رياض الجنة مع الصالحين الأبرار، وألهم أفراد أسرتنا جميعًا الصبر، والاحتساب، والدعاء لها، والحمد لله على كل حال، و إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ .