عبدالرحمن الحبيب
إن الحرب الباردة تشبيه ضعيف لفهم العلاقات الأمريكية الصينية اليوم. فقد سبقت الحرب الباردة 30 عامًا من الحرب العالمية والكساد، بينما تأتي اللحظة الحالية بعد 30 عامًا من سلام القوى العظمى والتوسع الاقتصادي العالمي. في بداية الحرب الباردة، استغل الاتحاد السوفيتي فراغ السلطة على طول محيطه، بينما الصين اليوم محاطة بقوى قادرة ووجود أمريكي مستمر في آسيا. في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، لم يكن هناك أي تدفقات تجارية أو استثمارية إلى الاتحاد السوفيتي، بينما الصين اليوم راسخة بعمق في الاقتصاد العالمي. على هذا النحو، فإن الاحتواء ليس خيارًا متاحًا للتعامل مع الصين، بالنظر إلى أن القليل من حلفاء الولايات المتحدة أو شركائها - إن وجدوا - سيكونون متقبلين للتحالف مع الولايات المتحدة ضد الصين.
هذا ما قاله خبير سياسات شرق آسيا رايان هاس (جامعة ييل الأمريكية) في حوار مع جيسيكا تشين فايس (جامعة كورنيل)، بعد الكتاب الذي أصدره مؤخراً بعنوان «أقوى» (Stronger) مع عنوان فرعي: تكييف إستراتيجية أمريكا مع الصين في عصر الاعتماد المتبادل التنافسي.
ورغم اختلاف هاس مع فكرة تشبيه التوترات الحالية بين أمريكا والصين بالحرب الباردة بين الأولى والاتحاد السوفييتي إلا أنه يستدرك بأن أحد أوجه التشابه المخيفة مع الحرب الباردة هو خطر نشوب صراع عسكري مدمر بين قوتين عظميين مسلحتين نوويًا. «سيحدد الوقت ما إذا كان قادة الولايات المتحدة والصين يختارون إعطاء الأولوية للحد من المخاطر، دون صدمة حادثة مثل أزمة الصواريخ الكوبية لتحريك الجهود نحو الحد من التسلح وإدارة الأزمات».
كما يختلف هاس مع طريقة الغرب بقيادة أمريكا في التنافس مع الصين من خلال إعاقتها أو منافستها بمشاريع مشابهة لمشاريعها، مثلما أعلنت مجموعة السبع مؤخرًا عن شراكة مشروع «إعادة بناء عالم أفضل» في مسعى واضح لمواجهة مبادرة الحزام والطريق الصينية، كتب هاس «إذا أرادت الصين تكريس مواردها لإنشاء بنك تنمية أو بناء طرق وخطوط أنابيب، فلا ينبغي للولايات المتحدة - ولا داعي - أن تقف في طريقها».
ويشرح هاس ذلك بفكرة «الميزة النسبية»، موضحاً أنه لا يمكن للدول الغربية التنافس على أساس التكلفة لبناء الطرق والسكك الحديدية، إذ تتمتع الصين بسمات فريدة، على سبيل المثال، الاقتصاد الموجه من الدولة، ووفرة عمال البناء ذوي الأجور المنخفضة واحتياطيات العملات الأجنبية.. من المرجح أن تكون مبادرة «إعادة بناء عالم أفضل» أكثر فعالية إذا تجنبت محاولة إخراج الصين، وبدلاً من ذلك يمكن لأعضاء مجموعة السبع التركيز على المجالات التي يتمتعون فيها بميزة نسبية، مثل: إنشاء البنية التحتية للتكنولوجيا الرقمية، والاستثمار في المرونة المناخية، ودعم الحكم الرشيد.. كما قد تعمل وسائل الإعلام الحرة والقضاء المستقل على تقليل المخاوف بشأن سيطرة النخبة والفساد وتآكل معايير البيئة والعمل في البلدان التي تستضيف مشاريع الحزام والطريق.
الميزة النسبية هي تقريباً أهم فكرة في الكتاب، حيث يرسم هاس طريقاً للمضي قدماً في علاقة أمريكا وتنافسها مع الصين على أساس المزايا النسبية التي تمتلكها أمريكا بالفعل. يجادل هاس بأنه على الرغم من أن المنافسة ستظل السمة المحددة للعلاقة، فإن كلا البلدين سيتأثران ببعضهما باستمرار، سواء أكان ذلك جيدًا أم سيئًا، ويحدد ذلك هو قدرتهما على التنسيق بشأن التحديات المشتركة التي لا يستطيع أي منهما حلها بمفرده، مثل الأمراض الوبائية والاقتصاد العالمي والتنمية وتغير المناخ ومنع انتشار الأسلحة النووية. يوضح هاس أن أمريكا ستحقق نجاحًا أكبر في التفوق على الصين اقتصاديًا وتفوقها في مسائل الحوكمة إذا ركزت على تحسين وضعها في الداخل أكثر من محاولة إعاقة المبادرات الصينية وتحويلها إلى عدو، بل ينبغي تجديد مزايا أمريكا في منافستها مع الصين.
يتساءل هاس: «السؤال الأساسي الذي يواجه صانعي السياسة يجب ألا يكون ما إذا كان لدى الولايات المتحدة مبرر للشعور بالحق في سخطها، بل بالأحرى كيف يجب على الولايات المتحدة الرد على الإجراءات الصينية بطريقة تدفع الصين إلى أقصى حد في الاتجاه المفضل لأمريكا.» وبدوره يجيب بأن التاريخ الحديث للعلاقة مليء بأمثلة على الدبلوماسية الأمريكية التي تحرك الصين في الاتجاهات المفضلة لواشنطن بشأن قضايا محددة مرتبطة بالمصالح الأمريكية، مثل التنسيق الاقتصادي المكثف بينهما حول الأزمة المالية العالمية عام 2008 في تجنب الكساد الاقتصادي العالمي؛ ومثل تكثيف الدبلوماسية التي قادتها أمريكا، وحولت الصين من كونها معيقة في مؤتمر كوبنهاغن لتغير المناخ لعاaم 2009 إلى لاعب رئيسي في تأمين اتفاق مؤتمر باريس للمناخ عام 2015. كما تعاملت الصين إيجابياً مع الدبلوماسية الأمريكية المكثفة عندما انضمت إلى الاستجابة الدولية لوباء إيبولا عام 2014 وساعدت في بناء قدرات الصحة العامة في أفريقيا بعد ذلك.
المشكلة - حسب هاس - أنه غالبًا ما تحجب التوترات المتصاعدة حاليًا بين أمريكا والصين الأمثلة السابقة للإجراءات المنسقة بينهما لمواجهة التحديات الدولية المشتركة.. فالعديد من التهديدات الأكثر حدة اليوم تتحدى الحلول الأحادية، سواء كانت مواجهة كورونا أو تعزيز الأمن الصحي العالمي، أو بناء اقتصاد عالمي أكثر شمولية، أو معالجة أزمة المناخ..