د. نوف بندر البنيان
إن للأمم والجماعات ذاكرتها التي لا تستقم الحياة بدونها، ولا تتراكم الحضارة إلا بها. هذه هي قصة الحضارة؛ يؤسس أولها لآخرها، ويؤكد آخرها أولها، نحن اليوم في حضرة التاريخ، نقتبس من أسرار حكمته، ونغترف من دروسه بكلتا اليدين لبناء الوعي الاجتماعي نحو التاريخ الحضاري لهذا البلد العظيم.
فحضارة المملكة العربية السعودية حضارة عريقة أصيلة، تفرعت من الحضارة الإسلامية العظيمة، وورثت خصائصها، واستمدت منها رؤيتها، فهي حضارة مكتملة بأركانها وعناصرها، مبنية على قاعدة إيمانية راسخة ومتجذرة في عمق التاريخ، تتجاوز المحلية إلى العالمية، مشرقة بضياء المعرفة على أسس علمية؛ منفتحة على العالم، حضارة أمة توارثت الأجيال قيمها الأصيلة ومبادئها السامية عبر العصور.
فهذه البلاد المباركة لم تكن طارئة على التاريخ الحديث، فالحضارة موروث ينتقل من أمة لأمة أخرى؛ في سلسلة كونية متعاقبة؛ محققة مبدأ الاستخلاف على الأرض؛ قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}. فالحضارة هي وجه الاستخلاف بجانبيها المادي والروحي؛ تتوارثها الأمم والشعوب بحسب الجدارة لتضع بصمتها عليها، وذلك عبر التنافس التاريخي لحمل لوائها، والمحافظة والثبات لا تتم إلا بالاتصال بالخالق -عز وجل- فنحن مستخلفون على الأرض والأرض ومن عليها ملك لله رب العالمين. واستشهد في هذا المقام بقول مؤسس هذه البلاد، الملك عبد العزيز آل سعود -رحمه الله-: «إنني خادم في هذه البلاد العربية؛ لنصرة هذا الدين، وخادم للرعية، الملك لله وحده، وما نحن إلا خدام لرعايانا، فإذا لم ننصف ضعيفهم ونأخذ على يد ظالمهم، وننصح لهم، ونسهر على مصالحهم فنكون قد خنا الأمانة المودعة إلينا».
واقتبست المملكة العربية السعودية من الحضارة الإسلامية جميع خصائصها، فنظام الحكم فيها ينبثق من القرآن الكريم والسنة النبوية، قائم على أساس العدل والشورى والمساواة، وفق الشريعة الإسلامية، وتنبثق بيعة الملك من البيعة الشرعية على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليست بيعةً وطنيةً مصطنعة؛ فطاعة الملك والسمع له وعدم الخروج عليه عبادة، وهذا هو النهج الإسلامي في الإمامة التي ورثها المسلمون بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أضْفَتْ الروح الإسلامية، والطابع الإسلامي على قيادات هذه الدولة بدءًا من مؤسسها الملك عبد العزيز -رحمه الله- ووصولاً إلى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -حفظه الله- فلا نقف عند قول من أقوالهم إلا ونجده مقرونًا بما يدل على مخافة الله، والعمل في سبيل نصرة الإسلام والمسلمين ونشر الأمن والسلام، ومن الكلمات المأثورة عن الملك عبدالعزيز -رحمه الله- قوله: (ماكنا عربا إلا بعد ماكنا مسلمين، كنا عبيداً للعجم، ولكن الإسلام جعلنا سادة، ليس لنا فضيلة إلا بالله وطاعته واتباع محمد، ويجب أن نعرف حقيقة ديننا وعربيتنا ولا ننساهما)؛ وقد سار أبناؤه من بعده واقتدوا به، حيث تشرفت القيادات العليا بخدمة الحرمين الشريفين، فخلعوا على أنفسهم لقب (خادم الحرمين الشريفين)، وتعززت كلماتهم في اللقاءات والمؤتمرات برفع راية الإسلام والدفاع عن المسلمين، وهذه سمات لا توجد إلا في قادة المملكة العربية السعودية وحكامها، فكان ولا يزال همهم الأول هو العالم الإسلامي، وتحقيق التضامن والوحدة الإسلامية والإسهام في دعم وخدمة جميع الدول في مختلف المواقف والظروف. ونتيجةً لذلك. فقد منح الله هذه البلاد هيبة ووجاهة أمام جميع دول العالم، الإسلامية وغير الإسلامية. وظهر ذلك في مجمل العلاقات الدولية التي تربط المملكة بكافة دول العالم؛ بدبلوماسية راقية ملتزمة بحفظ المواثيق والعهود. ولا غرابة فهي دولة عزها الله بخدمة بيته الطاهر؛ وعاش حكامها لخدمة هذا الدين ونصرته؛ فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}.
كما اهتمت المملكة العربية السعودية بتحقيق النظام الاجتماعي الذي يكفل كرامة الإنسان وحريته وحفظ حقوقه، وحرصت كل الحرص على مراعاة النظام الاجتماعي المتبع منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ والمستمد من الشريعة الإسلامية، وتحديد أسس العلاقات على مستوى الأسرة والمجتمع والدولة، مستمدة رؤيتها من الحضارة الإسلامية لهذا النظام؛ من أجل توفير الحياة المثالية لمجتمع آمن تحت قيادة حكيمة تعمل بشرع الله.
واهتمت حكومة المملكة بالتعليم؛ باعتباره ركيزة أساسية لرقي البلاد وتقدمها. وقدمت له دعماً سخياً؛ يسهم في تطوره ومواكبة التقدم العالمي في هذا المجال.
كما أن حضارة المملكة العربية السعودية حضارة إنسانية، والإنسانية خاصية من خصائص الحضارة الإسلامية فقد أكرمت الإنسان بصفته مخلوق عزيز مكرم عند الله، ولم تفرق في ذلك بين المواطن أو المقيم؛ إيمانًا من القيادة بأنها تحمل رسالة عظيمة للبشرية؛ والمملكة لم تُنعت عبثاً بمملكة الإنسانية، فمنذ تاريخ إعلان توحيد هذه البلاد في عهد المؤسس -رحمه الله- ووصولاً إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- ويد الخير والعطاء ممتدة لتقديم المساندة والدعم للدول الشقيقة؛ وهذا الخير يأتي انطلاقاً من إيمانها ورؤيتها كعضو فاعل في المجتمع الدولي، وكقلب نابض للعالم الإسلامي.
وحضارة المملكة العربية السعودية حضارة مرنة قابلة للتجديد والتطوير دون المساس بأسس العقيدة والدين، وما رؤية 2030 التي نادى بها سيدي ولي العهد سمو الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- إلا مثالًا متميزًا، وأنموذجًا من نماذج التطور العالمي، وهذا التطور متوافق مع الزمان وجاهزية المكان؛ بمرتكزات دينية وعمق عربي أصيل. وهذه الرؤية بنيت على أسس؛ نادى بها المؤسس -رحمه الله- بتعبير صريح في قوله: (إن من يعتقد أن الكتاب والسنة عائق للتطور أو التقدم فهو لم يقرأ القرآن أو لم يفهم القرآن). ومن هذا المنطلق تسعى حكومة المملكة العربية السعودية في السير نحو القمة محتفظة بتعاليم الدين الإسلامي، وشريعته السمحاء.
لهذا وأكثر استحقت المملكة العربية السعودية أن تكون مشعلاً للحضارة الإسلامية بكل المقاييس على يد حكام آل سعود، وبكل جدارة وثقة وثبات جيلاً بعد جيل.
** **
أستاذ التاريخ المشارك بقسم العلوم الاجتماعية - جامعة حائل