هذه هي الدنيا ليس بينها وبين الإنس نسب يولد هذا ويموت هذا وتدور الأيام والسنين. وفي كل دقيقة يولد ظل ثم يقبضه الله، أرواح كنا نتمتع ونعيش ونأنس في ظلها، هي دقائق بل ساعات وأيام تمضي ثم يزول هذا الظل، وفي يوم الثلاثاء وبتاريخ 7-2-1443هـ فقدنا من كنا نتمتع بظله ونأنس به، هو الخال والتاجر الوجيه الباذل للمعروف، ذو الأخلاق الرفيعة واليد المعطاء والتي تجود بالكرم والمعروف الشيخ: محمد بن عبدالرحمن بن ناصر السعدي، هو الابن الأوسط من الذكور لعلامة العالم الإسلامي والمفسر الفقيه الشيخ الجد عبد الرحمن بن ناصر بن عبدالله السعدي(1)
وُلد -رحمه الله- في القصيم بمدينة عنيزة بتاريخ 9-4-1341هـ، وتربى في كنف والدته (ابنة عم والده) حصة بنت عبدالعزيز الناصر السعدي، وتحت ظل والده الشيخ (عالم عنيزة المعروف) عبدالرحمن بن ناصر السعدي -رحمهما الله، تأثر بهما في أخلاقه وسلوكه، فتكونت شخصيته المميزة عقلاً وفهمًا وسلوكًا، تجلى ذلك في آثاره التي غرسها في هذه الدنيا واستظل تحتها طلاب العلم والمرضى والأطفال والفقراء والمساكين، هذه الدنيا الفانية غرس فيها وأنجز اعمالاً ليجني ثمرتها يوم القيامة، فنسأل الله عز وجل أن تكون له نور في قبره ويوم لقاء ربه، ورفعة له بالدرجات.. آمين.
ولد -رحمه الله- في بلدته عنيزة وتلقى تعليمه الأول فيها، وُلد ذكيًا قد حباه الله عز وجل ذكاءً ومعرفةً وقدرةً على الإدراك والفهم والإقناع، وفي عام 1352هـ أرسله والده إلى الجبيل (2) عند عمه سليمان الناصر السعدي -رحمه الله (3)، للدراسة وممارسة التجارة وعمره كان بحدود 11 سنة.
بدأ مسيرته التجارية والعلمية هناك فنمت تجارته وزاد علمه ومعرفته، وإلى جانب ذلك كان -رحمه الله- محبًّا للقراءة في شتى الفنون الشرعية والأدبية والتاريخية، ويتابع الأخبار والأحداث العالمية في الصحف والمجلات، ويقتني الكتب بشتى الفنون، وكانت له مكتبة صغيرة في منزله. وعمل على تطوير نفسه فسبق إقرانه بتعلم كل ما هو جديد ومفيد، فتعلم الطباعة على الآلة الكاتبة والرسم - (أهدى لوالده الشيخ عبدالرحمن قطعة قماشية رسم فيها خارطة العالم السياسي وأتقن الحدود والمعالم وكان ذلك أيام الحرب العالمية الثانية، احتفظ بها الشيخ في عنيزة واستفاد منها في حواراته، ثم أهداها للوزير ابن سليمان -رحمهم الله)، وسافر إلى بريطانيا لتعلم اللغة الإنجليزية. كان -رحمه الله- يهوى الصيد والإبحار على مركب بحري كان يملكه. وله اهتمام بالزراعة والأشجار المثمرة من النخيل والحمضيات. اقتنى الحديث من آلات التصوير الثابتة والمتحركة لما كان في عمر الشباب، يوثق بها كثيرًا من الأحداث والمناسبات الأسرية والاجتماعية.
سافر إلى دول عديدة ومرات وبلدان متكررة سواء للتجارة أو السياحة أو التعلم، فاكتسب معارف وخبرات أهَّلته لممارسة العمل التجاري والخيري باحترافية وتمكين مميز. وقد سافر مع والده الشيخ عبدالرحمن في الرحلة العلاجية المعروفة إلى لبنان (بيروت) في أواخر ايام سنة 1373هـ. وفي إحدى الرسائل البيروتية الموجهة من الشيخ عبدالرحمن لأحد طلابه في عنيزة امتدحه -رحمه الله- في هذه الرسالة بحسن تدبيره للأمور وأخلاقه وجمال تعامله، وأنه (الشيخ) يحمد الله سبحانه أن ولده محمدًا كان معه ويرافقه في هذه السفرة العلاجية والتي امتدت قريبة من الشهر.
بدأ الخال محمد حياته العملية مبكرًا؛ حيث عمل في التجارة في الجبيل والخبر والدمام والهند. وأسس مع أخيه عبدالله السعدي وعبدالله النفيسي -رحمهم الله- شراكة تجارية امتدت سنوات من الصدق والأمانة والتطور وكانت الشركة محل تقدير وثقة مع من يتعاملون معهم. وبعد وفاة الشركاء افتتح مؤسسة خاصة به، مارس من خلالها أعماله التجارية والعقارية الخاصة وهي تعتبر مقراً لأعماله الخيرية وديواناً يجتمع فيه أقرانه ومحبيه من الأسرة وخارج الأسرة كل يوم من الساعة السابعة صباحًا حتى آذان الظهر.
عُرف -رحمه الله- بالجود والكرم مع حسن الخلق والتواضع، وكان من صفاته التبسط مع الكبير والصغير. وهو حريص على الصلاة في السفر والحضر، وكان -رحمه الله- يبكر الذهاب إلى المسجد في صلاة الفجر وغيرها، حتى في بدايات مرضه وقبل أن يقعده في فراشه يسابق المصلين إلى الصف الأول، وكان دائم الصلة مع أقربائه وذوي أرحامه بارًّا بهم. وله -رحمه الله -أعمال خيرية عديدة منتشرة في بعض المدن، وخاصة في مدينة عنيزة، فقد أوقف أرضًا تكون مقبرة في وسط عنيزة، وأنشأ مركزًا طبيًّا متكاملًا للتدخل المبكر والسريع في عنيزة والذي افتُتح بداية عام 1438هـ. وشارك في بناء العديد من المساجد والعناية بها داخل المملكة وخارجها، ومساعدة المحتاجين من أسرته ومن خارج أسرته.
وقد تميز -رحمه الله- بتقديره للعلم والعلماء، واستضافهم في مقر عمله وبيته بالخبر، وكان له دور بارز ومشاركة فعالة مع إخوانه وأخواته (عبدالله وأحمد ولولوة ونورة) في نشر مؤلفات والدهم الشيخ المفسر العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي وتسهيل طباعتها وعلى نفقتهم الخاصة وتوزيعها بالمجان، وله صلة قوية مع كثير من الدعاة والمشايخ وطلبة العلم وعن طريقهم وبواسطتهم يدعم العلم الشرعي وطلابه ويساعدهم على التحصيل العلمي معنويًا وماديًا، فأوقف بعض أملاكه وعقاراته لهذا الغرض السابق نسأل الله أن يتقبل منه. وحتى يستمر هذا العمل وقبل 22 سنة كلف أحد أفراد الجيل الثالث من أسرة السعدي وبموافقة أخيه أحمد بمتابعة كتب والدهم والإشراف على طباعتها والعناية بها وإعطاء الموافقات في النشر والتوزيع لكيلا ينقطع الخير من بعدهم. وقد استمر في حياته -رحمه الله -يولي اهتمامًا بأعمال البر والصدقات، كما أنه حريص على إخراج زكاته قبل رمضان في كل سنة وتوزيعها بنفسه أو بواسطة من يثق بهم، حج مرات عدة آخرها في السنة التي كان فيه حريق منى، وفي وسط سنة 1437هـ أثقله المرض وأقعده عن الذهاب إلى العمل، لكن فتح بيته للزائرين، واستمر المرض يأخذ من صحته سنة بعد سنة يقاسي آلامه ويكتمها أحيانًا، توفي -رحمه الله- في مدينة الخبر وصُلي عليه ودفن بمقبرة الدمام عن عمر ناهز 100 سنة حافلة بالعطاء ولم يخلف من الذرية (عوضه الله في الآخرة). وترك زوجة مثالية يحبها وتحبه هي الصابرة والمحتسبة نورة الحمد القاضي، وأخته الصغرى المحبة الوالدة نورة العبدالرحمن السعدي ومجتمعًا كبيرًا من المحبين يدعون له بظهر الغيب. فنسأله تعالى أن يجزيه خير الجزاء على ما قدم، وأن يرحمه رحمة واسعة ويرفع درجته في عليين، والحمد لله رب العالمين.
** **
مساعد بن عبدالله السعدي - الدمام