في رحيل الأحبة تمتزج الحروف والعبارات وتبقى الدموع شاهدًا على حجم الألم مع ما يفيض به القلب حبًا وشوقًا وذكريات لا تنسى.
في رحيل (جدتي) والدة آل مالك العابدة التقية نورة بنت صالح الخريجي انطفأ نور منزلنا، بل في منازل أسرتنا عرفته مضاءً منذ طفولتي.
في السنوات الأخيرة بدأ يضعف هذا النور، لكن قوى الخير والحب والعطاء تزداد قوةً حتى جاء أمر الله المقدر في صبيحة يوم الأربعاء الثامن من شهر صفر الثالث والأربعين وأربعمائة وألف قال تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}.
أي فراغ سيحدثه رحيلها من منزل والدي الذي لا يخلو من الزائرين من بداية اليوم إلى ساعات متأخرة من الليل يستأنسون بحديثها وقصصها، فهي من أمهات المراجع لأحداث وسير سطرها التاريخ عبر قرن من الزمان.
كانت -رحمها الله- اجتماعية من الدرجة الأولى، ورغم أن الحق لها فقد كانت تبادر بزيارة الأهل والأقارب والجيران، كما كانت تحرص على الخروج إلى استراحة الأسرة كل خميس لترى ويراها الجميع إلى أن أقعدها المرض وشق عليها الخروج.
لا تتأفف أو تنزعج من وجود الناس حولها، بل كانت تسعد بهم وتبادلهم أطراف الحديث، تسأل عن القريب والبعيد حتى الأطفال، مع أن من في سنها ينزعج أحيانًا منهم، أما هي فكانت تحتضنهم بحب وابتسامة وهم يبادلونها الشوق ولا يخرجون منها إلا وبيدهم نقود أو قطع من الحلوى، بل إنها تنزعج إذا ما قمنا بزيارتها ولم يكونوا معنا.
عندما كنت أقيم مع والدي في منزله كانت غرفتها بجانب غرفتي وكنت كثيرًا ما أسمعها تقوم الليل وتقرأ بصوت مسموع ولا تتأخر أبدًا عن الصلوات المكتوبة حتى مع مرضها وضعف سمعها تسأل باستمرار هل أذن للصلاة؟!
حين كانت في نشاطها لا يخلو عام دون الذهاب إلى مكة ولا ترتاح إلا وقد أنفقت جميع ما لديها من نقود تحملها على فقراء الحرم.
وأي رحمة وإنسانية أكثر مما كانت تفيض به على العمالة في المنزل «هل تناولوا وجباتهم؟ هل يوجد طعام كاف لهم؟» كانت تذكرنا وتنصحنا دائمًا «أكرموهم في تعاملكم، هؤلاء مساكين تغربوا وتركوا أبناءهم».. وبالنسبة لها فقد كانت تجزل لهم العطايا والهدايا.
اللهم إن الناس شهداء على محبتها فأحبها، كريمة فأكرمها بمنزل في الجنة.. اللهم اجبر كسر قلوبنا برحيلها واغفر لها وارحمها برحمتك.
** **
- د. أيمن بن عبدالعزيز المالك