علي الشدي
تأخرت كثيراً في كتابة مقال تأبين لشقيقي وعضيدي ورفيق حياتي وملهمي محمد بن أحمد الشدي رحمه الله، الذي آلمني فقده، وكسر ظهري رحيله، إذ كان لي الصديق والمعلم والخليل الذي ألازمه وأتشارك معه الهموم والآمال ما لا أتشاركه مع غيره، حتى بات تلازمنا -ولله الحمد- نموذجاً في المجتمع وبات أحدنا يعرف بالآخر في المناسبات والمواقف والصداقات، وكان إيماني بالله سبحانه وتعالى سلوتي في مصيبتي، وتسليمي بأن {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وأن الله سبحانه قدر لكل واحد منا عمره وتفاصيل حياته، وأنه جل في علاه أنعم على البشر بنعمة السلوى و النسيان التي بدونهما لم تكن الحياة لتمضي و لا للبشر أن يفيقوا من أي صدمة أو مصيبة (والموت أسماه الله في كتابه العزيز بالمصيبة)، وأيقنت أن من عرف الله هانت عليه مصيبته، فاحتسبت أخي و استرجعت إلا أني لم أكن أجرؤ على كتابة حرف عنه، فلطالما رأيت مصيبتي في فقده رحمه الله أعظم من أن يُعبر عنها، وأن لواعج نفسي وحرقتي على فقده لا يمكن أن يصفها بيان ولا أن يحيطها مقال، وأن شخصيته التي أعرف تنوعها و عمقها عصية على الوصف و الإحاطة بها، فعزمت على ألا أكتب مقالاً وألا أقف مؤبناً لأني لا أظني قادر على وفاء أبي عبدالعزيز رحمه الله ما يستحق وأن أي نفثة أبثها لن تخفف عني ولن ترقى إلى ما يستحق، فآثرت الصمت والاحتساب، غير أني تراجعت جزئياً عن ذلك العزم، لسيل التفاعل بدءاً من قيادتنا التي شاركتنا في العزاء، مروراً بأهل الفكر وأرباب الثقافة ومنسوبي قطاع الإعلام، وكافة أعيان المجتمع وأسرتنا وأهلنا الأوفياء بامتداد بلادنا وخارجها الذين شاركونا مصابنا، وما أفاضوا به من نشر في وسائل الإعلام والتواصل المختلفة عن صفاته وسيرته، ما جعلني أحمد الله إن لم تعد تصدق على مجتمعنا مقولة الأديب الكبير محمد حسين زيدان حينما قال: (الأمة دفانة) أي انها تنسى فضائل من غاب عن المشهد، إذ الشهادة لله انني وجدت إنصافاً من الأوفياء لراحلنا الكبير رحمه الله، فكتبت المقالات وأطلقت التغريدات واشتعلت وسائل التواصل وكشف هؤلاء الكرماء عن جوانب لم نكن ونحن أسرة الفقيد نعلم عنها وخاصة ما يتعلق منها بالجوانب الإنسانية والمساعدة بالمال والجاه لمن يحتاج المساعدة ممن يعملون معه وللمحتاجين عموماً.. واليوم أكتب وأحاول ألا أستسلم للمشاعر الشخصية فيما لو تحدثت عن ذكريات الطفولة والصبا والدراسة وبدايات العمل ومواف الحياة التي تشاركتها مع شقيقي، ولذا أخصص هذا المقال عن أخي الأستاذ محمد الشدي بوصفه علماً قدم للوطن الكثير في مجالي الصحافة والثقافة.. ولم يكن عمله في هذين المجالين مروراً عابراً، بل ترك بصمة عبر عنها عنوان مقالي هذا.. ففي مجال الصحافة وضع أمام عينيه ان يقدم صحافة متطورة وجريئة تضاهي الصحافة في الدول التي سبقت بلادنا في هذا المجال فحول مجلة اليمامة الى مطبوعة منتظمة ذات تبويب وعمق في الطرح، وحلة احترافية قشيبة في المظهر قدمت للمرة الأولى المجلة الملونة في بلادنا بالشكل الذي يشابه الى حد كبير المجلات العربية المرموقة وقتها مثل الحوادث والأسبوع العربي والمصور وآخر ساعة.. ليس فقط بالشكل وانما بالمادة الجريئة التي طرحتها لأول مرة ولذا فقد استكتب الكتاب الذين عرفوا بالطرح الجريء لمختلف القضايا.. وأقنع بعض الأكاديميين والقيادات الإدارية من ذوي الثقافة والمعرفة بالكتابة الصحفية بعد أن كانوا محجمين أو مترددين.. ورغم ما تحمله رئيس التحرير محمد الشدي من متاعب لمعالجة ردود الفعل على بعض مقالات الكتاب أصحاب الطرح الجريء فقد كان سعيداً بأن تصبح اليمامة منارة للصحافة المتطورة.. وبالإضافة الى المقالات كانت اللقاءات مع الزعماء وعلى رأسهم ملوك بلادنا والأمراء والوزراء وكذلك بعض الزعماء في العالم العربي الى جانب الاهتمام بالأدباء الكبار مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم والشاعر اليمني عبدالله البردوني وغيرهم ممن كانوا يتصدرون الساحة الثقافية والأدبية في ذلك العصر.
وفي مجال سعيه لإيجاد صحافة متطورة فكر (رحمه الله) في اصدار جريدة أسبوعية في لندن كان يمكن أن تكون أولى الصحافة السعودية المهاجرة قبل صدور جريدة الشرق الأوسط عام 1978م.. فاجتمعنا قبل ذلك بعام تقريباً شقيقي محمد وأنا مع الزميل عثمان العمير في جنيف واتفقنا على اصدار جريدة أسبوعية مبدئياً وتكون المادة الرئيسية فيها اقتصادية بالتعاون مع جريدة الفايننشال تايمز البريطانية وفعلاً تواصل الزميل عثمان العمير مع الجريدة المتخصصة بعد عودته الى لندن وتمت الموافقة لكن امكانياتنا المادية نحن الشركاء الثلاثة آنذاك لم تساعد على تنفيذ الفكرة.. وودع أخي محمد اليمامة وهي في موقع الصدارة وانتقل الى المجال الثقافي حينما وجهه من يتابع اهل الفكر والقلم الملك سلمان بن عبدالعزيز (حفظه الله) وكان أميراً للرياض آنذاك بأن يتواصل مع الأمير فيصل بن فهد بن عبدالعزيز (رحمه الله) وكان رئيساً لرعاية الشباب فعرض عليه الأمير فيصل ان يعمل معه رئيساً لمجلس إدارة جمعية الفنون التابعة للرئاسة.. وبدأ عمله هناك بتقديم اقتراح للأمير المثقف (المتحمس لكل ما يرفع من شأن بلاده) بأن تضاف كلمة الثقافة لاسم الجمعية لتصبح «الجمعية السعودية للثقافة والفنون».. وفعلاً انطلقت الجمعية بقوة ووجد محمد الشدي ان التحدي الجديد الذي أمامه و كان هدفه المهني الثاني بعد ان تحققت أهدافه الإعلامية، هو ان ينشر الثقافة للجميع وان لا تبقى (للنخبة فقط) كما هي في بعض البلدان فتم بدعم ومساندة من الأمير فيصل بن فهد افتتاح اكثر من ستة عشر فرعاً للجمعية في مختلف مناطق المملكة وأقيمت المناشط ليس في المدن الكبيرة فقط وانما في المدن والبلدات الأصغر، فأضاءت كل هذه المواقع على مدار العام بالأمسيات الشعرية والندوات الثقافية ومعارض الكتب ومعارض الفنون التشكيلية، وصدرت المجلات المتخصصة مثل الملف الأدبي والثقافي الرصين «التوباد»، ومجلة الرياضة والشباب «الجيل» وملحقها للأطفال، ما جعل الجمعية تصل لكل المناطق والأعمار و الاهتمامات، واستمر هذا الحراك لاحقاً بدعم من الأميرين سلطان بن فهد ونواف بن فيصل بن فهد اللذين تولياً رئاسة رعاية الشباب بعد وفاة الأمير فيصل بن فهد (رحمه الله) وهكذا حقق محمد الشدي (الهدفين) اللذين وضعهما أمامه منذ بدأ حياته العملية وهما إيجاد صحافة متطورة وجريئة في حدود احترام الثوابت والأنظمة المرعية في هذه البلاد.. وكذلك ثقافة للجميعوفي جميع المواقع.. وفي هذين المجالين اللذين أحبهما ونذر حياته العملية لهما حرص (رحمه الله) على ان يلم بجميع مراحل العمل ففي الصحافة تدرب في مجلة الحوادث ومجلة الأسبوع العربي لعدة أسابيع حتى عرف جوانب كثيرة عن التحرير والإخراج والطباعة واختيار الصور والعناوين ولذا تميزت اليمامة في هذا المجال كما ارتبط بصداقة مع رؤساء التحرير والمسؤولين في الصحافة العربية والخليجية.. وكان على تواصل معهم مستمر حتى بعد ترك احترافه الصحافة، وظل يلتقيهم في بلدانهم أو حول العالم، ويحتفي بهم عند زياراتهم الرسمية لبلادنا، وكذلك في المجال الثقافي كان يندر أن يزور أديب الرياض لمناسبة أو لحضور مهرجان الجنادرية (الذي شارك فقيدنا الراحل في تأسيس نشاطه الثقافي و التراثي وبلورة شكله الشمولي الأصيل خلال المراحل الأولى لانطلاقة المهرجان برعاية الحرس الوطني) الا وكانت زيارة مجلة اليمامة ثم جمعية الثقافة والفنون من أهم فقرات الزيارة، أما مجال الثقافة والأدب والفنون فقد زادت معارفه وتجاربه، وتوسعت دائرة معارفه مع كل المشتغلين بها في المملكة و الدول العربية دون أن يحده تصنيف أو أذواق و أحكام شخصية على التكتل أو الإقصاء.
وأخيراً: شكر لكل من قدم التعازي لأسرتنا في فقيدنا الغالي.. مع الامتنان الكبير للأساتذة الكرام الاوفياء الذين كتبوا عن الفقيد ولكثرتهم لن أحاول إحصاءهم فجزاهم الله خيراً، وقد اقترح بعضهم تسمية شارع باسم الراحل في مدينة الرياض يليق بما قدمه الراحل لبلاده، وهناك من اقترح اطلاق اسمه على قاعة ثقافية وتخصيص جوائز ثقافية باسمه.. ونحن على ثقة بان القيادة في هذه البلاد تقدر جميع من عمل بإخلاص لخدمة هذا الوطن العزيز.