د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في الليلة الثالثة من المآنسة بين الوزير أبي عبدالله العارض، والأديب أبي حيان التوحيدي سأل الوزير الأديب عن قصته مع الخرساني على الجسر في بغداد، ولأن تلك القصة قد حدثت في عهد عضد الدولة البويهي، فقد قادنا ذلك السؤال إلى قصر هذا المقال، على بعض ملامح الدولة البويهية، التي حكمت العراق، فارس، والري، وهم يعتنقون المذهب الزيدي، وكانت مدة حكمهم نحو مائة وثلاثة عشر عاماً، تحت ظل الدولة العباسية، وخلفائها الضعفاء.
كان أبو شجاع بن بويه صياداً متوسط الحال اجتماعياً ومالياً، رغم أنه يعود في أصله إلى الساسانيين، وأنجبت زوجته ثلاثة من الأبناء هم، علي، والحسن، وأحمد، ولم ينالوا نصيباً من العلم، كما لم يكن لديهم مهارة معينة تعيينهم على متطلبات الحياة، وتغنيهم عن الحاجة إلى الناس، فما كان منهم إلاَّ أن انضموا كمرتزقة في أحد الكتائب التابعة لأحد القادة، وعلا شأنهم لديه، لكنهم هربوا إلى منافس لهم، فقربهم وآواهم، وساعدوه على الانتصار على غريمه، فقسم إدارة بعض البلاد على قادة جيشه، ومنهم الإخوان الثلاثة، وبعد مرور نحو ثلاث سنين ندم على فعله في تفويض أولئك القادة إدارة تلك الأقاليم، فقام باستدعائهم، لكن علي بن أبي شجاع بن بويه، أدرك مرام ذلك الحاكم، وخشي من سوء المآل، فأرسل إلى إخوانه وأقنع بعض القادة الآخرين، بأن هذا الحاكم لا يؤمن جانبه، وأن من الصواب رفض طلبه، كما أقنعهم أن الهجوم خير من الرفض والبقاء، فوافق أكثرهم، واستطاع أن يكون جيشاً يمكنه مقارعة جيش ذلك الحاكم، وكان علي متولياً على الكرج، وهي مدينة في جورجيا، وربما أن كلمة كرجية التي كانت سائدة هنا، تعود إلى تلك المدينة، وسارت الجيوش ودخلت أصفهان، وأصبح علي في وضع قوي جداً، وامتد في حروبه، وكسب كثيراً من الأرض، وتقاسم الأخوة بلاد فارس فدخل أحمد الأهواز في جنوب فارس، وطلب من الخليفة الاعتراف به، فبعث إليه الخليفة بخلعه السلطة وتلقب بمعز الدولة، ولقب علي بعماد الدولة، بينما كان لقب الحسن ركن الدولة، وكانت فارس من نصيب علي، أما الحسن فاستقل بالري وهمدان.
طمع أحمد بن بويه الملقب بمعز الدولة في الاستيلاء على بغداد، التي كان فيها بعض من الأتراك الذين يتقاتلون فيما بينهم، فعقد العزم على الغزو، بطلب من رجل اسمه ابن البريدي، الذي كان أحد الأقطاب المتصارعة على النفوذ، وأغلبهم من الترك، وكانت غايته الوقوع بمنافسيه، دون اهتمامه بعاقبه فعله، ظلت بغداد في صراع بين الأضداد، فارتفعت الأسعار، وزادت المكوس، وتذمَّر التجار، وقام منافس آخر تركي اسمه كوش، بدعوة معز الدولة، ثم دخل ناصر الدين الحمداني على خط النزاع، واستمرت الحال فترة من الزمن، عانى فيها سكان بغداد من الجوع والخوف ما الله به عليم.
ونهاية الأمر كانت الغلبة لمعز الدولة، الذي ألغى بسلطة الخليفة المحدودة أصلاً، وجعل حكمه مقتصراً على إصدار المراسم، وحاول الخليفة المستكفي، استرداد شيء من سلطته، فما كان من معز الدولة إلاَّ أن أمر أحد معاونيه، بجره من الكرسي أمام الناس، وقد كان يعتقد أنهم قدموا للسلام عليه حيث مد يده ليقبلوها، وأخذوه إلى مكان معز الدولة الذي سمل عينيه، وسجنه واستدعي أبو الفضل بن المقتدر، وأجلسه على كرسي الخلافة، ولقبه بالمطيع لله.
أدخل معز الدولة إلى بغداد، صنوفاً من الظلم، وقهر الناس، والاستيلاء على الأموال، وضمان القضاء، و المآتم وغيرها، وقد توفي في عام 356هـ بعد أن غير كثيراً من الأنماط التي كانت سائدة في عاصمة الخلافة الإسلامية، وبعد وفاته تولى ابنه عز الدولة بختيار مقاليد الحكم، وعمره خمسة وعشرين سنة، ولم يكن حكيماً في حكمه، كان سيئ التدبير، ضعيف البصيرة، قاسياً أهوجاً، سطا في أول أمره بمن حوله من بني جلدته من الديلم، طمعاً في مالهم، وأساء إلى وزير والده التركي الأصل، وقام عليه أخوه جشَّي ، فقبض عليه وصادر أمواله، وعندما غزا الروم الجزيرة، استصرخوا، بالخليفة، وأهل بغداد، فأعلن عز الدولة مناصرتهم، وطلب من أهل بغداد التبرع بالمال، فأخذها ولم يساعد أهل الجزيرة، ولم يقف في وجه الروم، وثارت فتنة بين الديلم الفارسيين، والأتراك، وانقسم أهل بغداد إلى فريقين، فكانت حرباً داخلية نهبت فيها الأموال والدور.
استنجد عز الدولة بابن عمه عضد الدولة الذي قدم لنصرة ابن عمه وطمعاً في حكم بغداد، وبعد أن سيطر على الموقف، طالب جند عز الدولة بحقوقهم، ونصحه ابن عمه بالتظاهر بعدم المبالاة، وأنه سوف يتنازل لابن عمه عضد الدولة، فوافق لجهله وغبائه، فذهب الجند وقادة البلاد إلى ابن عمه عضد الدولة، الذي أنفق المال على الجند، وأحسن معاملتهم.
أخذ عضد الدولة في ترتيب حكمه، ولقب نفسه بالملك، وهو أول من تلقب بذلك في الإسلام، كما أنه قتل ابن عمه عز الدولة، وقبض على وزيره ابن بقيه وصلبه على جذع شجرة، وسار إلى بني حمدان وأنهي دولتهم، وكان عمه عماد الدولة يحبه، ولم يكن له ولد فعقد له الحكم بعده، وبعد وفاة والده وعمه أصبح حاكماً وملكاً على العراق وفارس وهمدان والري والأهواز وأصفهان وغيرها، واتسعت رقعه ملكه لمساحة لم يبلغها غيره في فترة العباسيين الضعيفة.
كان عضد الدولة محباً للعلم والعلماء، عمَّر بغداد، وقرب إليه الأدباء والشعراء والعلماء في كل فنون العلم، ولهذا فقد ظهر في زمانه أفذاذاً يشار إليهم بالبنان، وشجع عن تعلم الطب، وأنشأ مستشفى ضخماً، على رأسه أبو منصور صاعد بن بشر، الطبيب المشهور، وكان للأدباء حظوه مثل الشريف الرضي، والأنباري، ومن الأدباء الطائي، والتوحيدي، وابن الباقلاني الذي كان سفيره إلى قيصر الروم، وكان قد يغبط ابن عمه لأن وزيره الصاحب بن عباد الأديب المشهور، الذي كان مؤدبه ابن العميد وهذان العالمان كتب عن مثالبها التوحيدي كتاب سماه مثالب الوزيرين.
ما أجمل وأمتع تلك الفترة التي كان للعلماء والأدباء دور بارز بقي أثره حتى يومنا هذا بين طيات الكتب التي نقرؤها.