د.عبد العزيز سليمان العبودي
حينما يتجاوز العمر خط الخمسين عاماً، تبدأ عبارة (لم يبق في العمر مثلما مضى) تدور في الذهن. وقد نكمل العبارة بالإيجاب فعلاً (لم يبق في العمر مثلما مضى، ولكن بقي الأجمل مما مضى). انتهى الخوف من الفشل خلال مراحل تأسيس الحياة وتجاربها، والآن يتم القطاف. مهما كان لون الورود وحجمها وكميتها وتنوعها، فهي لك وهي نتاج غرسك بعد توفيق الله. ذهب الشباب بهمومه وتقلباته وترقبه وطيشه إن كان هناك شيء من طيش. ولو أتيح لك أن تعود، فلا أعتقد أنك ستعود. لن تتحمل أن تطلب مصروفك من والديك، ولن تتحمل كمية الاختبارات والجلوس على طاولة الطلب الخالية من وسائل الراحة. لن تتوجس نتائجك الدراسية وفشلك في المقابلة الشخصية للتوظيف، وصفعات المجتمع من حولك. ولكن استمتع بحياتك وجمالياتها. وحقق جودة الحياة التي تريد لنفسك وليس ما يريده الآخرون لك. فلا تتردد في اقتناء أو استئجار دراجة هوائية أو نارية فاخرة وتجربة رحلة مع الأصدقاء إذا كانت تستهويك.
وإذا كانت ظروف عملك قد حالت بينك وبين هواية الرسم التي كنت تعشقها، فلا يزال أمامك الكثير، فقد توفرت طرق وأساليب تسهل العمل الفني وتجعل من منتجك يبدو أجمل وأكثر احترافية. لا تعرف السباحة، أو أنك لم تجد الوقت الكافي لممارسة هذه الهواية الجميلة، الآن يمكنك أن تجد نادياً رياضياً قريباً من بيتك يوفر لك هذه الهواية، بل يمكنك الاستمتاع بالغوص من خلال بعض الأندية المتخصصة بذلك في المدن الساحلية. كذلك جرِّب أن تقوم برحلة صيد ماتعة لمدة يوم كامل مع من تحب. والبس وتأنق وتهندم وشارك الشباب في أفكارهم وطروحاتهم ونقاشاتهم خاصة الإيجابية منها، فمنهم تأخذ الطاقة الإيجابية والحماس والرغبة في الحياة. استمتع بالقراءة ففيها حياة جديدة. ومكتبتك الفارهة يمكنك الآن الاستغناء عنها واستبدالها بكتاب إلكتروني صغير تصحبه معك أينما كنت، فلا يؤذي عينيك بإشعاعه، ولا يشغلك برسائل التنبيه المزعجة، وتستمر بطاريته بالعطاء لأسبوع أو أكثر.
ثلاثة جوانب مهمة في حياتك، تستحق العناية والاهتمام، وهي: صحتك الروحية والبدنية وعائلتك، فالروح عديل الجسد، فصحة الروح تحتاج إلى الغذاء السليم الذي يشعرها بالاكتفاء والدواء الشافي. فالصلاة غذاء للروح والقرآن والصوم والصدقة وكل تعبد لله هو غذاء للروح تحصل على نتيجته بالدنيا قبل الآخرة. ودواء الروح العليلة يكمن في الدعاء والتضرع إلى الله، فدموع الليل الخاشعة يصحبها سعادة لا توصف في صباح اليوم التالي. والجانب الثاني وهو البدن، فلبدنك عليك حق، صحتك مهمة، والأمراض البسيطة تستطيع المبادرة بعلاجها قبل أن تتفاقم. والرياضة تساعد على الحفاظ على حيوية جسدك وروحك، كذلك الغذاء المتوازن. أما الجانب الثالث فهي عائلتك، سكنك ووطنك وملاذك. فالجلسات المتنوعة مع أفراد عائلتك سواء في البيت أو في المطعم أو حتى في حديقة عامة تزيد من روابط العلاقة بين أفرادها. الاستماع الجيد لهم يفتح لك صدورهم. ومهما كانت أحاديثهم تافهة وليس لها معنى فهي مهمة بالنسبة لهم. وقد لا يلزم في كثير من الأحيان أن تعطي رأيك فيما قالوا، ولكن يكفي منك الكلمات التي تشجع على مواصلة الحديث.
أقترب من ثلاث: أولها المسجد فأجعل علاقتك به علاقة مغناطيسية كلما ابتعدت عنه جذبك إليه. وثانيها الأعمال التطوعية، فخبرتك وحكمتك وقدراتك لازالت سخية العطاء. وللأعمال التطوعية أثر كبير في علاج الأمراض النفسية بالإضافة لاحتساب الأجر من الله. والأمر الثالث، علاقتك مع كبار السن من أقاربك ففيهم تكسب الأجر من صلة الرحم ومنهم تحصل على الدعم المعنوي للاستمرار في الاستمتاع بجماليات الحياة.
احذر من ثلاث: أولها أن تدخل في شراكات جديدة أو مشاريع استثمارية، فخسارتها عليك وربحها للورثة. وثانيها: لا تتحمّل الكثير من مسؤوليات أبنائك بعد أن تخرجوا وتوظفوا، دع الحياة تصقلهم والتجارب تزيدهم حنكة. لا تقلق إن اقترضوا من البنك لشراء سيارة أو شقة، فلن يقدم لهم البنك قرضاً إلا وقد تأكد من إمكانية السداد، وهذه الأقساط التي لو لم تذهب إلى البنك ستذهب إلى الكماليات. وثالثها: لا تغامر فتتزوج بأخرى إلا إذا كنت قد فقدت رفيقة العمر، فابتداء حياة جديدة من المسؤوليات وشراء مستلزمات المواليد والأطفال قد انتهى وقتها. ولك الحق في الاستمتاع ببسمة أحفادك ومشاركتهم لعبهم وجمال طفولتهم، وإذا بكوا أو مرضوا فسلمهم لوالديهم مباشرة.
تخلص من ثلاث: أخبار السياسة، والأصدقاء المتشائمون، وزوائد الأشياء. فأخبار السياسة لن تقدم لك إلا القلق السلبي، والأصدقاء المتشائمون يوقعونك في فخ التشاؤم، فتبقى كسيراً حزيناً إن اتجهت إلى اليمين خوفوك بالثعابين وإن اتجهت إلى اليسار قالوا هذا طريق الانكسار. أما الجهة الأمامية فيغلقونها أمامك بعبوسهم المتسمر. وبالنسبة لزوائد الأشياء، فكل شيء لديك وقد تجاوز السنة بدون استخدام فهو من زوائد الأشياء، فإن كان صالحاً كسبت به صدقة بتوجيهه إلى الجمعيات الخيرية وإن كان غير ذلك فأنت تعرف أين تتخلص منه. ومن زوائد الأشياء كذلك الارتباطات غير المهمة. وكل عمل لا تجني منه نفعاً في الدنيا والآخرة فهو من زوائد الأشياء.
وهذه ثلاثة كتب يستحسن قراءتها: حيث تعرضت هذه الكتب للمرحلة الثالثة من العمر من خلال الجوانب المرتبطة بها صحياً ونفسياً واجتماعياً. وأولها، (حياتنا بعد الخمسين) للمؤلف سلامة موسى، حيث يعارض فيه فكرة التقاعد وانتظار ملك الموت دون أي نشاط. ويطرح الكثير من الأفكار حول إشغال تلك الفئة العمرية وعدم اعتبار أن الحياة انتهت، من خلال المحافظة على الصحة الجسدية والعقلية والنفسية بممارسة هوايات جديدة، والقراءة، ومتابعة الشؤون العالمية. وكذلك الكتاب المترجم (منحنى السعادة: لماذا تصبح الحياة أفضل بعد الخمسين)، حيث اعتمد الصحفي جوناثان راوتش على أحدث الأبحاث ليجيب على هذا السؤال. ومن الكتب المهمة كذلك كتاب (نصائح غذائية لصحتك بعد الخمسين) للدكتور أيمن الحسيني.
أخيراً، أعرض كل نصيحة أو استشارة أو رأي على الضوابط الشرعية ثم على فكرك وحكمتك وتجربتك وادرسها جيداً قبل أن تبادر بتطبيقها. ومن بين النصائح التي عليك تمحيصها والتأكد من أنها تناسبك، نصائح هذا المقال.
** **
- جامعة القصيم