يكاد غلاف الكتاب اليومَ يحلُّ محِلَّ العنوان في المثل السَّائر (الكتاب يُعرَف من عنوانه) قديمًا، لأهميَّته في إظهار الكتاب وإبرازه للمتلقِّي، وإسهامه في «تحقيق أعلى اقتصاد لُغويّ ممكن وأعلى فاعليَّة تلقٍّ ممكنة»(1)؛ لكونه مدخلًا إلى محتواه، وبابًا إلى مضمونه وفحواه، بما تهيَّأ له من الوسائل الرَّقميَّة والتِّقنيات الحديثة. بيدَ أنَّ هذا لا يُسوِّغ أن يُطلَق عنان التَّصرُّف فيه بالكتابة كيفما جِيءَ وشِيءَ. فللغلاف كغيره آدابٌ علميَّة ومنهجيَّة، وضوابطُ فنيَّة ينبغي مراعاتها والعناية بها وعدم الخروج على حدودها، والتَّجاوز عن أُصولها. أمَّا الضَّوابط الفنيَّة من التَّصميم والتَّنسيق واختيار الألوان والصُّور فأمرها مناطٌ بالنَّاشر يُشارِكُه فيها المؤلِّف. والذي يعنينا في هذا المقام هو الآداب العلميَّة المتَّصلة بتلك البيانات التي تُحرَّر على غلاف الكتاب. وقد حشدتُ في هذه المقالة ما تهيَّأ لنا حشدُه من هذه الآداب. والله الموفِّق.
أوَّلًا: أدب التَّضمين
هو ما يُحدِّد مقدار ما يُكتَب على الغلاف، وما يحتويه من البيانات. فلا يُضمَّن إلا العناصر الرَّئيسة من العنوان واسم المؤلِّف واسم الذي عمل على الكتاب تحقيقًا أو تجميعًا أو ترجمةً أو نقدًا أو تخريجًا أو ما شابه ذلك، وقد تُضاف إلى ذلك بعض العناصر الفرعيَّة كشعار الجهة النَّاشرة واسمها، واسم المقدِّم أو الذي راجعه، ورقم الطَّبعة وتاريخها، ويفضَّل الاكتفاء بالأركان الرئيسة، وترحيل الأُخَر إلى الوحدة الأماميَّة الدَّاخليَّة للكتاب؛ إذ «لو أنَّ الغلاف الواحد اجتمعت فيه كلُّ العناصر المذكورة سلفًا (الرئيسية) و(الفرعيَّة)، ماذا سيكون شكل الغلاف؟ أعتقد أنَّه سيكون أشبه بلوحةٍ جداريَّةٍ مليئة بالخربشات المزعجة»(2).
أمَّا تلك العبارات التي نجدها على بعض الأغلفة، نحو: حُقِّق على خمس نسخٍ خطيَّة أو قوبِل عليها، أو حُقِّق على نُسخة المؤلِّف، أو على أربع نُسخ نفيسةٍ، أو يُحقَّق لأوَّل مرَّة، أو كان في عداد الكتب المفقودة، أو طبعة مزيدة ومنقَّحة، أو أصله رسالة علميَّة (ماجستير أو دكتوراه)، أشرف عليها الدُّكتور الفلانيّ وناقشها الأستاذ الدُّكتور الفلانيّ، فهي ممَّا لا يُرتَضى تضمينه الغلافَ؛ لما يأتي:
1. لأنَّه خطأٌ منهجيٌّ عظيمٌ، إذ لم تجرِ به سُنن التَّأليف والتَّحقيق، ولا قُرِئ عند من سبق إلى ولوج هذا الباب(3).
2. لأنَّ هذه العبارات من «العبارات الممجوجة التي تُوحي بأنَّها مقصودة؛ لترويج الكتاب على طريقة ترويج السِّلع»(4). وهي ممَّا لا يليق بأهل العلم، ولم يُعهد منهج الدِّعاية وخلق اتِّجاهٍ مُشايعٍ نحو كتابٍ ما في آثارهم.
3. لا اعتداد بالكثرة في التَّحقيق؛ لأنَّ الضَّابط هو ما يتحقَّق به إخراج النَّصِّ كما أراده مؤلِّفه، أيًّا كان عددُ النُّسخ المعتمدة. فضلًا عن أنَّ ذكر عدد النُّسخ على الغلاف أمرٌ «قبيح مخالف لعرف المحقِّقين ومشعرٌ بالمبالغة والتَّباهي»(5).
4. بيانٌ للشَّيء في غير موضعه؛ لأنَّ هذه المسائل لها مواضعها التي يُذكَر فيها، كالوحدة الأماميَّة للكتاب أو مقدِّمته أو في وصف النُّسخ، لا في الغلاف. وسعيٌ إلى تحقيق ضربٍ من الإشهار ولفت الانتباه في مجال لا يقبل الإشهار ولا يكون فيه لفت الانتباه(6).
وعلى العكس من ذلك الإغفالُ عن ذكر ما يجب تضمينه الغلافَ، ومثاله: «غلاف كتاب الوحوش للأصمعيّ (ت216هـ) الصَّادر بتحقيق الدُّكتور أيمن محمد ميدان في مفتتح سلسلة كنوز التُّراث بالنَّادي الأدبيّ الثَّقافيّ بجدَّة عام 1990م؛ حيث جاءت الوحدة الأماميَّة الخارجيَّة بدون ذكر المؤلِّف وبدون ذكر كلمة تحقيق؛ وكأنَّ أيمن هو المؤلِّف»(7).
ثانيًا: أدب التَّبيين
هو الاكتفاء بذكر العنوان المنتهى إليه، في المؤلَّفات التي تتعدَّد عناوينها، لا أن يُسرَد أكثر من عُنوانٍ على الغلاف تحت عبارات: المسمَّى كذا، أو المشهور بكذا؛ فإنَّ موضع ذلك في داخل الكتاب، ولا يُزاحَم به عناصر الغلاف الرَّئيسة، أو التي ينبغي أن تُدوَّن عليه. فضلًا عن أنَّ عناوين الاشتهار والذّيوع لا اعتداد بها إزاء مراد المؤلِّف وتسميته المنصوص عليها، قال الأستاذ إبراهيم اليحيى: «ولا يفعل كما يفعله بعضهم، يضع العنوان الأوَّل بخطٍّ كبيرٍ، ثمَّ العنوان الثَّاني تحته بخطٍّ صغيرٍ، وهذا بالطَّبع ليس مراد المؤلِّف أن يكون العنوانانِ على صفحة الغلاف»(8).
ثالثًا: أدب التَّوحيد
أقصد به الالتزام بذكر العنوان في الغلاف بمفرداته عينها التي وردَ بها في الوحدات الأخرى للكتاب، وتوحيده في جميع مواضع ذكره من الكتاب، كالوحدة الأماميَّة الدَّاخليَّة، والوحدة الخلفيَّة، وترويسة الكتاب، ونحو ذلك؛ لئلا يُخرَج الكتاب و»يُنشَر بعنوانين مختلفين في غلاف الطَّبعة الواحدة، وهو أمرٌ شاذٌّ وغريبٌ؛ حيث يُذكَر العنوان في الوحدة الأماميَّة الخارجيَّة بلفظ مغاير للفظ الوحدة الأماميَّة الدَّاخليَّة للغلاف»(9). ومن أمثلته: كتاب الدُّكتور أحمد عارف حجازي عبد العليم: (الوقف والابتداء في ضوء علم اللِّسانيات الحديث)، هكذا في الوحدة الأماميَّة الخارجيَّة للغلاف، أمَّا في الوحدة الدَّاخليَّة فجاء بعنوان: (الوقف والابتداء على ضوء اللِّسانيات الحديثة). ومثله: (الموادّ والمداخل في المعجم التَّاريخيّ)، وفي ترويسة الكتاب (المواد والمداخل في المعجم اللُّغويّ التَّاريخيّ)، وفي الوحدة الأماميَّة الدَّاخليَّة للغلاف (نحو صناعة معجم تاريخيّ للُّغة العربيَّة، المواد والمداخل في المعجم اللُّغويّ التَّاريخيّ)(10). وغير ذلك من الأمثلة التي ذكرها الدُّكتور محمد جمعة الدِّربي وفَّقه الله تعالى.
رابعًا: أدب التعريف
هو الاقتصار على الألقاب العلميَّة من غير مبالغةٍ أو إغراقٍ، والاكتفاء بكتابة الاسم الصَّحيح من غير تطويل ولَبسٍ(11). والابتعاد عن ذكر أسماء الشُّهرة؛ لأنَّه «غير مقبول في الوحدة الأماميَّة لأغلفة الكتب؛ لأنَّ الوحدة الخلفيَّة كافيةٌ للتَّعريف بالمؤلِّف؛ ويصعب الاتِّفاق مع كتاب (رواية ما بعد الحداثة وقضايا التَّشكيل) الصَّادر عن دار راشد للنَّشر عام 2019م؛ حيث كُتِبَ اسم المؤلِّف على الوحدة الأماميَّة بلفظ (محمد صلاح أحمد) تحته (محمد صلاح زيد)؛ وهذا يقلِّل درجة التَّلقِّي بين الكاتب والقارئ، وربَّما يُوهِم وجود مؤلِّفَين للكتاب»(12).
خامسًا: أدب الترحيم
هو إتباع اسم المؤلِّف المتوفَّى بجملة «رحمه الله»، أو ما شابهها، بعد ذكر سنة وفاته. بوصف الدُّعاء للعلماء والاستغفار لهم حقًّا من حقوقهم علينا؛ ففي الحديث: « وإنَّ العالِم ليستغفرُ له مَن في السَّموات ومَن في الأرض»(13). وعن عبد الله بن عمر رضيَ الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال: «... ومَن صنعَ إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تُكافئونه فادعوا له حتَّى تروا أنَّكم قد كافأتموه»(14). وهل ثمَّ معروفٌ أعظمُ في هذه الدُّنيا من معروف العلماء الذين يرشدون النَّاس إلى ما يُقرِّبهم إلى رضوان الله جلَّ وعزَّ. قال أبو محمد التّميميّ (ت488هـ) رحمه الله: «يقبح بكم أن تستفيدوا منَّا، ثمَّ تذكرونا ولا تترحَّموا علينا»(15). ونصَّ الإمام النَّووي (ت676هـ) رحمه الله على أنَّ المرء «مأمورٌ بالدُّعاء لهم، وبرِّهم وذكر مآثرهم، والثَّناء عليهم، وشكرهم»(16).
سادسًا: أدب التذييل
يُقصَد بالتَّذييل «الجملةُ التي يُلحَقُ بعنوانِ الكتابِ لبيانِ نَوعِ العَملِ التَّأليفيّ المنجَز عليه»(17). كالتَّحقيق أو التَّجميع أو التَّرجمة أو التَّجريد، ونحو ذلك من الأعمال التي يُجريها المؤلِّف على تلك المؤلَّفات. فينبغي أن يكون هذا التَّذييل بكلمة أو عبارة مسبوكة موجزة، دالَّة جامعة شاملة، لا أن يُسطِّر المؤلِّف منهج عمله كلِّه بعبارات وجمل يمكن أن تُستعاض عنها بكلمة واحدة، نحو: تقديمٌ وتحقيقٌ وتعليقٌ، أو تحقيقٌ وتعليقٌ وتقديمٌ، أو دراسةٌ وتحقيقٌ وتذييلٌ، أو جمعَ نُصوصه وحقَّقهُ وقدَّم له، أو جمعهُ وحقَّقه وعلَّق حواشيه وقدَّم له، أو حقَّقه وقدَّم له وعلَّق عليه، أو حقَّقه وعلَّق عليه، أو حقَّقه وعلَّق عليه ووضع فهارسه، أو عُني بجمعِهِ وتحقيقه(18). ونحو ذلك ممَّا يمكن أن يُستغنَى عنه بكلمة: تحقيق، أو بعبارة: دراسةٌ وتحقيق(19).
سابعًا: أدب التَّرتيب
التَّرتيب الطبيعيّ للأسماء على غلاف الكتاب في التُّراث العربيّ، هو الابتداء باسم الكتاب ثم إردافه باسم المؤلِّف، وما خالف هذا فهو خلاف المنهج القويم، قال عبد الفتَّاح أبو غدَّة: «جرى أسلوبٌ جديدٌ في طبع كثير من الكتب الجديدة، وهو أن يُكتَب اسم المؤلِّف بأعلى الزَّاوية في الصَّفحة، والعنوان في وسط الصَّفحة. وهذا أُسلوبٌ غريبٌ عن الأُسلوب العربيّ، مقطوع الصِّلة الظَّاهرة بين اسم المؤلِّف وكتابه، والمعهود في الكتب من أوَّل تدوينها تقديم اسم الكتاب واتِّصال اسم المؤلِّف بعده به. فهذا الأُسلوب العربيّ القويم»(20). وبمثله التَّرتيبُ بين اسم المؤلِّف واسم الذي راجعَ الكتابَ أو قدَّم له، ولا اعتداد ههنا بالقول بتقديم مَن راجع الكتاب أو قدَّم له تأدُّبًا، أو بسبب تقدُّمه بالشَّرف؛ لأنَّه ليس من مواضع التأدُّب والتَّوقير في شيءٍ. ولأنَّ المراجِع إن كان قد تقدَّم المؤلِّفَ في سببٍ من أسباب التَّقديم الخمسة فإنَّ المؤلِّفَ تقدَّم عليه في الأربعة الأُخَر: الطَّبع والزَّمان والمكان والعلَّة. فضلًا عن لزومه تقديم كلِّ من يُرى فيه أنَّه أشرف من المؤلِّف، أو أعلى منزلةً منه، سواءٌ أكان محقِّقًا أم شارحًا أم مختصرًا أم مترجمًا، ونحو ذلك. ولا يخفى ما يُحدِثه هذا اللازم من الفوضى والاضطراب؛ لأنَّه في الغالب من الأحكام التَّقديريَّة التي تختلف من شخصٍ لآخر؛ تبعًا لاختلاف أذواقهم ووجهات نظرهم.
** **
الهوامش:
(1) (5) (7) (9) (10) (12) قيمة الغلاف في التَّأليف العربيّ: د. محمد جمعة الدّربي، مجلة الربيئة الإلكترونيَّة، العدد الخامس عشر، 2019م.
(2) (4) (8) (11) (19) قواعد تحقيق النُّصوص: 129، 127، 128.
(3) (6) انظر: الغريب المصنَّف: 1/ 11- 12.
(13) سنن أبي داود (3641)، وسنن التّرمذيّ (2682).
(14) سنن أبي داود (1672)، وسنن النّسائيّ (2566).
(15) سير أعلام النُّبلاء: 18/ 613.
(16) تهذيب الأسماء واللُّغات: 1/ 22.
(17) (18) علم تجميع التُّراث المفقود: 175، وانظر: 176- 178.
(20) تصحيح الكتب وصُنع الفهارس المعجمة: 102.
** ** ** **
صفاء صابر مجيد البياتي - العراق - كركوك