د. تنيضب الفايدي
بتوفيق من الله سبحانه وتعالى عمل الملك عبدالعزيز رحمه الله على توحيد التعليم في أرجاء الوطن، ووضعت في عهده الأنظمة التعليمية لتشمل حقول التعليم ومراحله المختلفة، وكذا خطط المناهج والوسائل المناسبة للتنفيذ ووضع الأنظمة الإدارية وما تتطلبه تلك الأنظمة من الكوادر المؤهلة، وقبل ذلك عمل جاهداً على توحيد أراضي المملكة العربية السعودية، ونجح في ذلك نجاحاً باهراً، حيث أرسى دعائمها على أسس متينة وراسخة مستلهماً في ذلك تعاليم الدين الإسلامي الحنيف عقيدة وشريعة، وأقوال الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود وأعماله التي رصدها التاريخ تثبت بوضوح إخلاص القصد وسلامة المنهج الذي سلكه في توحيد البلاد وتطويرها، وفي نصرة الإسلام وإعزاز المسلمين، ويتضح ذلك جلياً في قوله: عندي أمران لا أتهاون في شيء منهما، ولا أتوانى في القضاء على من يحاول النيل منهما ولو بشعرة. الأول: كلمة التوحيد، لا إله إلا الله محمد رسول الله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، إني والله وبالله وتالله أقدم دمي ودم أولادي وكل آل سعود فداء لهذه الكلمة، ولا أضن بها. الثاني: هذا الملك الذي جمع الله به شمل العرب بعد الفرقة وأعزهم به بعد الذلة وكثرهم بعد القلة فإني كذلك لا أدخر قطرة من دمي في سبيل الذود عن حوضه.
ورد ذلك في أكثر من مرجع ومنها كتاب (الملك الراشد جلالة المغفور له عبدالعزيز آل سعود) لمؤلفه عبدالمنعم الغلامي، وهناك عشرات المصادر العلمية التي ذكرت تحصيله العلمي، حيث من المعلوم أن الملك عبدالعزيز قد بدأ تحصيله العلمي بالقرآن الكريم تلاوة وسماعاً وشرحاً، وتعتبر مدرسة القرآن الكريم مصاحبة له مقيماً ومرتحلاً، فقد خصص له وقتاً طوال حياته، كما جعله المنهج الذي قامت عليه سياسة الدولة، وكان لا يخلو مجلسه من تلاوة القرآن الكريم، حيث كان يداوم على سماع القرآن الكريم ممن حضر مجلسه من القراء بل حتى أثناء الارتحال،حيث يستمر باستماع القرآن الكريم حتى عندما يكون على الركاب ليلاً، لذا فإنه كان - يرحمه الله - حريصاً على قراءة القرآن الكريم في الحل والسفر، فقد جعل قراءته نظاماً متبعاً في مجالس الملك وخاصة مجلس الملك الليلي، كما كان حريصاً على قراءة حزبه من الأدعية المأثورة، وقد جمع ذلك فيما بعد في كتاب اشتهر أخيراً بعنوان «الورد المصفى المختار من كلام سيد الأبرار».
يتضح مما سبق أن مدرسة القرآن الكريم هي المدرسة الأولى التي تخرج منها إلى جانب عدة مدارس أخرى ولا سيما مدرسة والده الإمام عبدالرحمن آل سعود، إضافة إلى مدرسة المستشارين حيث يذكر (جلال كشك) صاحب كتاب (السعوديون والحل الإسلامي)، بأن جلالة الملك عبدالعزيز هو الحاكم العربي الوحيد الذي أحاط به مستشارون من معظم الجنسيات العربية، وكان ديوانه أول وآخر مجلس حكم منذ الدولة العباسية، وجد فيه المصري والسوري واللبناني والليبي والعراقي والفلسطيني إلى جانب السعودي بالطبع.
كما نظم لنفسه ما يسمى حالياً بالتعليم المستمر «حيث ظل طوال حياته يتابع الأفكار والآراء والأنباء أثناء إقامته أو حتى في رحلاته حيث هناك مجموعة من الخبراء في (الخيمة السياسية) المرافقة له. ونتيجة لهذه المدارس وبتوفيق من الله سبحانه وتعالى لزمه النجاح أينما حل وارتحل. وظهر نتيجة لذلك ولعمق ثقافته وبعد نظره تم رصد تاريخ الدولة الفتية، ووحد مصدر تاريخ الدولة السعودية مما يدل على بصيرة متميزة، وفكر ثاقب، ويعتبر جانباً هاماً من رصد الحركة التعليمية وهو من الجوانب المضيئة لتاريخ سيرته - يرحمه الله - فقد اشتهرت مجموعة من المؤرخين لهذه السيرة ومنهم (أمين الريحاني) الذي ألف كتاب (نجد وملحقاته) وسيرة عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل فيصل آل سعود) وقد لازمه بعض المؤرخين لرصد الوقائع والأحداث والأعمال والنظم التي تمت في عهده إضافة إلى رصد الرسائل الصادرة منه أو المرسلة إليه، وحتى تكون الوثائق الأساسية والمصادر العلمية لتاريخ الملك عبدالعزيز وأسرته واضحة ولا سيما للمؤرخ أمين الريحاني، فقد أرسل له الملك عبدالعزيز كتابين يتناولان تاريخ الأسرة وهما: روضة الأفكار لمؤلفه حسين غنام، وعنوان المجد في تاريخ نجد لعثمان بن عبدالله بن بشر، كما كلف مؤرخاً آخر يرصد تاريخ الأسرة حيث يذكر الشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى في كتابه (عقد الدرر فيما وقع في نجد من الحوادث في آخر القرن الثالث عشر وأول القرن الرابع عشر) بأن الملك عبدالعزيز أمره بأن يجمع له كتاباً يتضمن ما وقع من الحوادث والوقائع وملوك الأوطان ووفيات الأعيان فألَّف الكتاب المذكور.
وهذا البحث لا يتناول المؤرخين أو التاريخ وإنما يتناول بعض الجوانب من الاهتمامات التي تدل على رعايته يرحمه الله للتعليم، حيث كان الملك عبدالعزيز يدرك تماماً أن لكل مواطن حقاً في أن يتعلم، وكان في أغلب خطبه ورسائله يحث على التمسك بالعقيدة كما أنه - رحمه الله - لا يترك مناسبة تمر دون أن يذكر من حوله بضرورة التمسك بها، وقد كان يلزم نفسه بمكارم الأخلاق وفضائل الأعمال ويحث عليهما ويبذل كل غال ونفيس في سبيل نشر الدعوة وفق ما ورد في القرآن الكريم بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، وكان اهتمامه بالتعليم بداية لنشر العقيدة الصحيحة ولإيصال رسالة الإسلام، كما جاء بها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم واضحة نقية ويعتبر يرحمه الله ذلك واجب الدولة في أن يعرف الفرد ربه ودينه وإقامة سلوكه على شرعه، لذلك فإن السياسة التعليمية في المملكة العربية السعودية تنبثق من الإسلام الذي تدين به الأمة عقيدة وعبادة وخلقاً وشريعة وحكماً ونظاماً متكاملاً للحياة وكما هو معلوم فإن حلقات العلم والعلماء بالحرمين الشريفين تعتبر أول وأهم المدارس فكان اهتمامه بذلك أولى خطواته المباركة يرحمه الله حيث أصدر مرسوماً ملكياً في 18/1/1347هـ بتشكيل هيئة لمراقبة الدروس والتدريس في الحرم ولتنظيم التعليم ولاسيما الديني وشكلت بموجب ذلك المرسوم لجنة هدفها الأساس الإشراف على سير الدروس للحرم المكي وانتقاء الكتب النافعة وتعيين الأساتذة المشهود لهم بالكفاءة وحسن السيرة والسير على طريقة السلف الصالح، وقد بدأ انتشار المدارس وتنوعها خلال توحيد المملكة العربية السعودية، حيث تم افتتاح المعهد العلمي السعودي في أم القرى 1345هـ ويعتبر أول مدرسة ثانوية، وقد تخرجت أول دفعة من المعهد في 7 صفر 1350هـ، وقد ألقى يرحمه الله خطاباً في أول فوج من هذا المعهد عند تشرف الخريجين بالسلام عليه في قصر المعابدة بمة المكرمة، ومن خطابه اقتطف الكلمات الرائعة التالية:
أيها الأبناء:
إنكم أول ثمرة من غرسنا الذي غرسناه بالمعهد، فاعرفوا قدر ما تلقيتموه من العلم واعلموا أن العلم بلا عمل كشجرة بلا ثمر وإن العلم كما يكون عوناً لصاحبه يكون عوناً عليه. فمن عمل به كان عوناً له، ومن لم يعمل به كان عوناً عليه. وليس من يعلم كمن لا يعلم، قليل من العلم يبارك فيه خير من كثير لا يبارك فيه، والبركة في العمل (من كتاب: الملك عبدالعزيز والتعليم للدكتور عبدالله أبوراس وآخر). وقد تم توجيه خريجي المعهد للعمل في مختلف مرافق الدولة ومن تلك المرافق مديرية المعارف، وذلك بناء على توجيه منه يرحمه الله.
* مدرسة تحضير البعثات 1354: وصدر لها نظام خاص بالبعثات ويذكر خير الدين الزركلي في كتابه (الوجيز في سيرة الملك عبدالعزيز): بأن مدرسة تحضير البعثات من أهم التجارب التربوية التعليمية التي تمت بقيادة الملك عبدالعزيز وتوجيهه، وبتأثير مباشر من أفكاره وذلك لسببين:
إنها كانت مواجهة ناجحة وسريعة ومنظمة، لعقبة من العقبات الرئيسة التي واجهت جهوده في تنمية القوى البشرية في مملكته الناشئة، وذلك لإعداد الأطر لتحمل مسؤوليات المستقبل فكانت هي الحجر الأساس في بناء الدولة العلمي الحديث، وكان التعليم في نجد يعتمد على القراءة على الشيخ ويكرر حتى يتم الحفظ وأهم الكتب التي تحفظ في بداية تأسيس المملكة العربية السعودية، وتعتبر مناهج الدراسة في نجد كتاب زاد المستنقع، وكتاب بلوغ المرام وكتاب عمدة الأحكام، وكتاب الألفية لابن مالك، الثلاثة الأصول، كتاب (كشف الشبهات)، شرح العقيدة الواسطية، فتح المجيد، الروض المربع، وهذه الكتب تدرس في المساجد وفي منازل العلماء، وإذا تم إتقانها يستفاد من المتخرج إمّا قاضياً أو أمام وخطيب مسجد، ورغم انشغال الملك عبد العزيز بقيادة الدولة إلا أنه دائماً يسأل عن هؤلاء الطلاب، فقد روى أحدهم أن الملك عبدالعزيز أرسل مرسولاً ليتناول الطلاب طعام الغداء على مائدته: وكان عددهم حمولة (عشر اتوييسات كبيرة)، وكلّ الحلقات والمساجد تحت إشراف مباشر من آل الشيخ، وبعض اتباع الإمام أحمد من حنبل، مع حفظ القرآن الكريم وتفسيره ولا يهتمون بالعلوم الأخرى، ويحفظون أبناءهم:
كل العلوم سوى (القرآن) مشغلةٌ
إلا الحديث وإلا الفقه في الدين
خير الأحاديث ما قد قال (حدثنا)
وما سوى ذلك وسواسُ الشياطين
استطاع الملك عبدالعزيز أن يهيئ المدارس الحديثة وأن تنتشر في نجد وكل قرية، وفي البوادي بعد أن أقنع كثيراً من المشايخ بأهميتها وأهمية المواد الدراسية المعتمدة لتلك المدارس الحديثة المتطابقة مع مدارس الحجاز وتطبيق مناهجها، مثل: التاريخ وتقويم البلدان، والحساب والهندسة بما في ذلك مادة الرسم، وكانت هذه المادة وما يتعلق بالكواكب والنجوم وطبقات الأرض تمثل مشكلة من المشاكل في المناهج الدراسية في نجد، بينما كانت تدرس في المرحلة الابتدائية بالحجاز، بالإضافة إلى مواد هامة، وذلك من عام 1355هـ، مثل: مسك الدفاتر واللغة الإنجليزية، والأخلاق والتربية الوطنية، والأشياء ومبادئ العلوم ، وفيما يلي بعض الخطوات التطويرية فيما تخص التعليم وتعتبر تجربة حاسمة تطبيقية بمراحل التعليم الثانوي في المملكة العربية السعودية التي تمت في عهد المؤسس رحمه الله:
أولاً: من أهم القرارات التي اتخذها الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى وتخص العلم وطلابه وكذا تخص العلماء هو تنظيم حلقات الدروس العلمية داخل الحرمين الشريفين؛ لأن تلك الحلقات من أهم مناهل العلم، بالإضافة إلى توحيد إمامة المصلين في كل من المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة.
ثانياً: مدرسة الأمراء (الأنجال): بدأت في غرفة في قصر المربع ثم أصبحت مدرسة بدءاً من عام 1354هـ وشكلت لها لجنة خاصة لاختيار المعلمين والمناهج وكانت تنتقل أحياناً بتنقلاته يرحمه الله وكانت في بدايتها لأبناء الملك عبدالعزيز وفي عام 1357هـ اتسعت المدرسة فاستقبلت (الأحفاد) حيث استقبلت المدرسة أبناء الملك سعود وانضم كذلك إليها أبناء إخوة الملك عبدالعزيز أنجال الأمراء (عبدالله، أحمد، ومحمد، ومساعد أبناء الإمام عبدالرحمن) ثم أصبحت المدرسة النظامية الأم في الرياض ويطلق عليها حالياً مدارس الرياض.
ثالثاً: أسس الملك فيصل يرحمه الله في عهد الملك عبدالعزيز عام (1366هـ) عندما كان نائباً للملك في الحجاز المدرسة النموذجية بالطائف ثم انتقلت إلى جدة وسميت (مدارس الثغر النموذجية)، وتخرجت منها أجيال خدمت الدولة.
رابعاً: تم افتتاح مدرسة دار التوحيد بالطائف (1364هـ) وهي من المدارس التي لها دور بارز في تخريج إضافة علمية خدمت الوطن ثم توالى إنشاء المدارس المختلفة مثل المعاهد العلمية (1370هـ) كما تم افتتاح عدد من المعاهد المهنية، كما بدأ التعليم الجامعي في عهد الملك عبدالعزيز، وبدعم وتوجيه منه.
خامساًً: بدأ تأسيس بعض المدارس في نجد مثل مدارس الحجاز في مناهجها وتنظيمها، ووجه رحمه الله معلمين وإدارة من المدينة المنورة للتعليم لإدارة تلك المدارس، وهذا من فطنة الملك عبدالعزيز حيث أصدر أمره للاستفادة من علماء الحرمين الشريفين في إدارة بعض المدارس في نجد مثل مدرسة شقراء كان مديرها الشيخ عبد المجيد الجبرتي الذي أصبح قاضياً في المدينة المنورة مع إمامة المسجد النبوي الشريف، ومعه بعض المعلمين من المدينة المنورة.
سادساً: قام الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ بزيارة لمصر واطلع على بعض المدارس فيها وأعجب بها وبمناهجها وعند رجوعه طلب الملك عبد العزيز أن تنتشر تلك المدارس في نجد، وفعلاً تم ذلك، وهذا دليل على بعد النظر للملك المؤسس، وهكذا بنظرته الثاقبة وبتوفيق الله قضى على الصعوبات والعقبات الاجتماعية التي كانت تعيق التعليم.
سابعاً: مما يدل على اهتمام الملك عبدالعزيز رحمه الله بالعلم والمدارس هو إنشاء مديرية المعارف في 1/9/1344هـ حيث يلاحظ أن إنشاء المديرية صدر قبل صدور التعليمات الأساسية التي وضعت نظام الحكم في 21/2/1345هـ وظلت مديرية المعارف موضع اهتمام الملك عبدالعزيز ولم يمض عام حتى صدر قرار بتشكيل أول مجلس للمعارف عام 1346هـ والذي قضى على ضرورة توحيد التعليم في جميع أنحاء المملكة على أن يتكون التعليم من أربع مراحل: تحضيري، ابتدائي، ثانوي، عال، ثم قسم «التعليم الثانوي» إلى متوسط وثانوي.
وخلال عهد المديرية العامة للمعارف (1344-1373هـ) تطور التعليم وأنشئت مدرسة تحضير البعثات عام 1355هـ كما ذكرت سابقاً، وتعتبر هذه المدرسة أول مدرسة ثانوية تؤهل خريجيها للالتحاق بالجامعات في الخارج.
كما أصدرت مديرية المعارف عدة أنظمة وأعدت أول منهاج سعودي للتعليم الابتدائي عام 1354هـ ونظاماً للمدارس الأهلية عام 1357هـ، ولمديرية المعارف تجارب أولية في افتتاح المدارس الليلية، ومدارس تحفيظ القرآن الكريم، والمدارس المهنية ونظام المدارس القروية عام 1364هـ، بل وصدر نظام الدروس الخصوصية عام (1371هـ)، ولقد وضعت مديرية المعارف اللبنات الأولى للتعليم الجامعي، حيث أنشأت كلية الشريعة بمكة عام 1369هـ، وكلية المعلمين بمكة أيضاً عام 1372هـ، وتحولت مديرية المعارف إلى وزارة المعارف عام ( 1373هـ)، ثم انفصلت الكليات وأصبحت تتبع وزارة التعليم العالي وتحولت وزارة المعارف إلى وزارة التربية والتعليم، ثم تم دمج وزارة التعليم العالي مع وزارة التربية والتعليم وأصبحت حالياً (وزارة التعليم).
وكان عدد المدارس في آخر عهد مديرية المعارف 306 مدارس، يدرس بها 39920 طالباً ويُدرس فيها 1472 معلماً.