د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** لا بأس إن حسب الإنسان نفسه مسقط الضوء، وافترضَ القمرَ مدارَه، والمجرة مساره؛ فلن يكون أولَ المتورمين ولا آخرَهم، وليرَ في نفسه ما يشاء؛ فللآخرين رؤاهم، والأمر هنا متصلٌ بالضفة الأخرى من الذين يعبرون بهدوء فلا يبصر الأكثرون قاماتهم، وقد يرحلون بصمتٍ لنأسى بعدهم؛ كيف لم نعرفْهم؟ وسيقول فئامٌ: بل كيف نعرفُهم داخل هذا الهدير المُعمي المُصمّ من السيول الرقمية؟
** تجيءُ هنا مسؤوليةُ التطهرِ من وقتٍ نُهرقه في غثاءٍ أحوى، وقد ابتدأ صاحبكم بنفسه؛ فبمقدار الهدْر يسعى للوفْر، ووجد في كتبٍ قديمةٍ ووسائطَ جادةٍ بعضَ بغيته، وأسف لأن في منْ أخلص جزءًا من عنايته المتأخرة لهم مَن كانوا قاب قوسين أو أدنى منه، وربما التقاهم بعين البصر ولم يرهم بعين البصيرة، والوجعُ وقتها وجعان؛ ضعفُ الدُّربة وقلةُ الدراية.
** يذكر أنه التقى - وقت الطلب - بنُخَبةٍ من أبرز وجوه الثقافة فلم يُدِرْ حديثًا مع أيٍ منهم، وتسنى له - أولَ عمره - حوارٌ مباشرٌ مع نجومٍ حقيقيين أضاؤوا وأضافوا فما مدَّ يده نحوهم، وكانت بقربه منتدياتٌ ثريةٌ فما غشاها، وحين ساقته إرادةُ الله المؤيَّدةُ بالمصادفات المجردة ليكون له - في نهاية عشريناته - حضورٌ إعلاميٌ اكتفى بأقلِّ الأقلِّ، وما يزال.
** أسف إذ جالس الشيخ أبا تراب الظاهريّ 1923-2002م أكثرَ من مرة ولم يدنُ منه، وهو من فاجأ الشيخ المحقق أحمد محمد شاكر بشمولية معارفه وقت شبابه المبكر، وهو من تتبع عددًا من تحقيقات الأستاذ عبدالسلام هارون ولاحظ عليها - في صباه - أخطاءً أقرَّه عليها المحقِّق، وقال له الشيخ أحمد حسن الباقوري: «العلمُ يمشي في إهابك»، أو نحوًا من هذا، وساجل العقاد وزكي مبارك ومحمد حسين هيكل وكبارًا سواهم، وحفظ من مواد « القاموس» ثلاثين ألف مادة، وانتشرت عنه حكايات : أبو فروة والقسطل، ومفردة « انْكَهْ التي تعني إخراج النفَس من الشراب وليس كما شرحها هارون بأنها «إنّك» مخففةً وهاء السكت، وأوضح مناسبة نزول الآية الكريمة: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ} مخالفًا ما توهمه عالمٌ جليل، وكل هذا وهو في يفاعته، والقائمة تطول.
** لم يفتْه أبو ترابٍ وحده، بل هو مثل عابر؛ فقد ازداد لومُه نفسَه أنْ لم يمدَّ قنوات وصل مع عديدين مبرزين أتاح له الزمن مقاعد مجاورةً لهم، ولن ينسى أنه مرَّ بالناشر الكبير الأستاذ «الحبيب اللمسي 1930 - 2017م» صاحب «دار الغرب الإسلامي» في أثناء معرض كتاب، وهو صاحب أكبر مكتبة عربية خاصة، فلم يكلف نفسه الجلوس معه ولو دقائق من نهار، والمفارقة أننا نخسر ونحسبُ أننا نُحسنُ صنعا.
** يقودُنا الندم إلى الألم، ومن التحسر المُمِضّ أن تخسر نبضَ يدك وإيقاعَ قلبك ونديمَ عقلك ليضيع جمالٌ وجلالٌ اختاراك دون عناءٍ منك، وحقُّه أن يضوع.
** الزمنُ لا يكررُ نفسَه.