سام الغُباري
قال لي «فؤاد» إنه سيذهب إلى ميدان التحرير لحضور حفل إيقاد الشعلة بمناسبة أحد أيام 26 سبتمبر، كان ذلك قبل عقدين، وكنت في العشرين ربيعًا، وبمستهل أول زيارة إلى صنعاء، ولم اكترث.
دعوته لترك رغبته، والذهاب لمشاهدة «باب اليمن» الذي لم أره بعد، كان طلبي غريبًا، مثل عينيّ المشدوهتين بلا سبب، لكنه تركني في بهو الفندق ومضى يرقب النار توقد من برج مُبارك، حتى أضاءت روحه وعاد إليّ مبتهجًا، كمن بلغ أمنيته الكبرى.
ما تزال مشاعر ذلك اليوم حاضرة في ذهني، لغرابة طلبه وإصراره - كنت أراها غريبة على أي حال - ولم انتبه لجلالة هذا التقديس الرمزي ليوم السادس والعشرين من سبتمبر الأغر إلا بعد سنوات تجاوزت بها ومعها فترة عمرية باردة بكل لحظاتها، إلى أن دهمني أول شعور بالقلق على بلادي مع اندلاع احتجاجات الربيع العربي، وظهور الحوثيين علنًا في شوارع مدينتي المحرمة.
يومذاك، قال لي خبير في التشاؤم: لن تعود اليمن، وكل ما عرفته وألفته لن تراه مرة أخرى. وكان تشاؤمه مصيبًا، وحين حاولت سؤاله: لماذا؟، أجابني بغصة قاتلة: أحقادنا كبيرة، ومطامعنا ضخمة، وبأسنا على بعضنا شديد.
ولم يطل وقوفه لأسئله: متى العودة، كان قد مضى، تاركًا الشمس تمضي في الأفق البعيد، ففطنت لأمر دعاني للحاقه، وناديته: إن الشمس تختفي وتعود، وحتمًا ستشرق شمسنا، توقف برهة، ولم يلتفت، دنوت منه، وألقيت عليه شطرًا من قصيدة البردوني:
أفقنا على فجر يوم صبي
فيا ضحوات المنى أطربي
أتدرين يا شمس ماذا جرى؟
سلبنا الدجى، فجّرنا المختبي
رمقني بلطف، وربتت يده كتفي، ابتلعه الزحام، وبقيت واقفًا، ساهمًا، واجمًا، أحدق في لا شيء، تتقاذفني أجساد المارة مثل ريشة سقطت على صفحة البحر.
في فجر هذا اليوم، يبدأ العام الستين لثورتنا المباركة، تلك المعجزة التي ابتلعتها الحياة، إلا من سطور غير مُدركة، يوم واحد كل عام، وقد كانت بقية الأيام والأسابيع والشهور تمضي بنا إلى رجعة الرجعية الإمامية، بأيدي كل الوزراء والمسؤولين ومديري المدارس، ومسؤولي الثقافة، والإعلام. لم يكن 26 سبتمبر يعني لنا شيئًا، لم نتعرف إلى ضباطه الأحرار، ولا تفاصيل القتال، وأهميته، ومعنى الطغيان الذي تعرض له أجدادنا، وحقيقة العنصرية السُلالية التي اكتوى بها اليمانيين على مدى حيواتهم القصيرة طيلة قرون كثيرة.
كنا غائبين، وأغبياء، لكننا لم نعد كذلك، في كل أيلول جديد تنتعش الإرادة اليمانية، وتصفو حقائق الدهر أمام أعيننا حين داهمنا الحوثي ذات ليلة غير مقمرة، غضبنا، وشتمنا، لكننا اليوم أصبحنا مدركين، والمدرك ليس كالغاضب، المدرك لا يعود إلى خطأه..
لا يعود أبدًا..
وسبتمبر مجيد