شروق عبدالله الثميري
يلحظ النقاد في التراث العربي فرقاً بين شعر العلماء باللغة والشعراء الآخرين, ومن اللافت للنظر انتقاصهم من العلم بقواعد الصنعة «إذ كان معلوما شائعا أن شعر العلماء دون شعر الشعراء «؛ فالبلاغة « ليس مرجعها إلى العلم باللغة, بل إلى العلم بمواضع المزايا والخصائص».
ويُعلَّل هذا الانتقاص بأن المَلكة شيء, وتعلم قوانينها شيء آخر, فهو علم بالكيفية وليس هو الكيفية نفسها. وقد تجاوزت هذه الفكرة إلى عدّ العلم خطرا على الموهبة, كما في قصة الشاعر ذي الرمة الذي كان يجيد الكتابة وسط ثقافة شفاهية « قال عيسى بن عمر: قال لي ذو الرمة: ارفع هذا الحرف, فقلت له: أتكتب؟ فقال بيده على فيه (أي اكتم عليّ) فإنه عندنا عيب». وهنا يُعلم أن المَلكة ابتداء وابتكار, والعلم بقواعدها احتذاء ونسج على منوال.
ويعد نزول القرآن الكريم نقطة تحول مهمة, وعلى النبي الأمي حجة بالغة, قال عز وجل:» وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون» العنكبوت: 48, انتقلت به هذه اللغة من كونها لغة خاصة بالشعراء إلى لغة هوية ووحدة ثقافية يجب على المسلمين العرب وغير العرب تعلمها. ومن جهة أخرى, صار الشعر الجاهلي مصدراً رئيساً ونموذجاً معياراً للسان العربي؛ فأصبح يُستقرأ من أجل الاستعمال الصحيح وتقعيده ونمذجته, وتأليف الأشكال اللغوية للتعبير المكتوب.
يختلف الشعر المكتوب عن الشعر الذي تولدت منه هذه اللغة, إذ يمكن ملاحظة خروج الكثير من الشعراء الأمويين المتأخرين والعباسيين عن المعايير الشكلية والموضوعية واللغوية التي قام عليها الشعر الجاهلي, فعلى سبيل المثال, يتسم الشعر الجاهلي بالصياغية, التي تعني استقرار بعض التراكيب اللغوية وتكرارها مع التغير المستمر للقصائد, في حين يُلاحظ على أوائل الشعر المكتوب بداية للخصوصية في الأسلوب, كما في تنوع مطالع القصائد الذي كان على نمط واحد من وقوف على الأطلال وبكاء الأحبة عند الجاهليين. وقد تسيطر العقلانية على الشعر المكتوب بدلا من عفوية الكلام المنطوق, فامرؤ القيس الشاعر الجاهلي يخاطب الليل:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
لكن بشار بن برد من العصر العباسي أكثر واقعية إلى جانب صواب تعليله:
لم يطل ليلي ولكن لم أنم
ونفى عني الكرى طيف ألم
تختلف ظروف الاتصال الشفاهي عن الكتابي, ففي المشافهة يوجد المستمعون ويمكن الاستعانة بتعبيرات الوجه والإشارات مع إمكانية التصحيح الفوري, أما في الكتابة فيكون الاعتماد على اللغة وحدها مما يوجب على الكاتب الدقة والتحديد. يقول عالم اللغة فندريس: «إن أقل الناس ثقافة يشعرون بمجرد وضع أيديهم على القلم بأنهم يستعملون لغة خاصة غير المتكلمة, لها قواعدها واستعمالاتها, كما أن لديها ميدانها وأهميتها الخاصين بها, اللغة المكتوبة هي الطابع المميز للغات المشتركة», ويقول جان جاك روسو: «إن اللهجات تتمايز ضمن الكلام, وتتقارب بل تندغم عند الكتابة, بحيث يرجع كل شيء من حيث لا ندري إلى نموذج مشترك. فإن الأمة بقدر ما تقرأ وتتعلم تذوب لهجاتها».
وهكذا, فإن الكتابة اتحاد وانتماء وقوة وخلود.