للتاريخ مآثر تبقى في الذاكرة رمزًا للأجيال وفخراً نتباهى به بين الأمم، وقد عاشت أرض الجزيرة العربية الكثير من القصص عبر الأزمنة، ومنها انتشرت في كل أصقاع الدنيا أغلب التقاليد والأعراف، ومن هذه النظرة كان جزء من رؤية سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حين زار منطقة جدة التاريخية والتقى في بيت نصيف نخبة من المفكرين والمثقفين والمهتمين، وأطلق رؤيته لتطوير جدة التاريخية استعدت بذاكرتي تاريخاً عميقاً كلنا قرأناه وتعايش الآباء معه، وذلك في عام 1344هـ عندما دخل الملك المؤسس -عليه شآبيب الرحمة- بيت نصيف لأول مرة بعد اتفاقه مع الملك علي بن الحسين رحمه الله، رجعت بذاكرتي وأنا أستمع لخطاب الأمير محمد بن سلمان يتحدث عن رؤيته لتطوير المنطقة التاريخية بجدة، فهرعت أشاركه الرؤى والأفكار.
وفي خضم ذلك تذكرت حكاية دخول المؤسس لجدة من شرفات بيتنا «بيت الحجاز حالياً» حدثني والدي عن إقامة المؤسس في بيت نصيف، وكذلك أبناؤه الأمراء محمد وخالد بجوار بيتنا في بيت عاشور الشهير ببيت (نور ولي) كان يوم البيعة هو خروج المؤسس راجلاً من بيت نصيف إلى المسجد الحنفي، وهناك أخذ البيعة من أهل جدة ووقف الملك عبدالعزيز خلال مسيره أمام بيتنا وهو يتفقد مسجد المعمار، كانت هذه حكايات سردها لي والدي رحمه الله.
وعندما سمعت حديث تطوير مدينة جدة التاريخية من سمو ولي العهد أبيت إلا أن أوضح حقائق تعايش معها آبائي وذكروها في مجالسهم، ومنها قصة دخول المؤسس والبيعة له، وكان لزاماً علينا أن نشارك الأمير المجدد ولي العهد رؤيته العظيمة، وجاءت الموافقة العاجلة بدراسة كل الجوانب حتى لا يكون هناك لغط أو نقصان، واتضحت مصداقية ما ذهبنا إليه من أعمال الملك عبدالعزيز وتحركه ماشياً عبر طريق يؤدي إلى المسجد الحنفي، وتم بالفعل تسمية الطريق حسب ما اقترحناه «ممشى المؤسس»، كان المؤسس يأتي مجيئًا وذهابًا على قدميه، ولأنه قوي العزيمة والشكيمة لم يكن يهاب أن يسير بين الناس دون وجل، ويذكر والدي جيداً أيضاً سكن الملك خالد وشقيقه الأمير محمد -رحمهما الله- في بيت «نور ولي» وكذلك الحاشية الملكية بين بيت نصيف ونور ولي والمطبخ الملكي والمستشارين، ومن هذا المكان أسس الملك عبدالعزيز مملكته التي انضمت إليها الحجاز وتوابعها، ومن نفس المكان أيضا جاء المجدد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان برؤية تعيد لجده المؤسس الدور الذي رسمه.
وفي هذا السياق أوضح مدير عام السياحة والتراث الوطني بمنطقة مكة المكرمة محمد بن عبدالله العمري حقيقة ما ذهبنا إليه أن الملك المؤسس سكن في جدة التاريخية في بيت نصيف عام 1343هـ، وكان يستقبل المواطنين والوجهاء لإدارة شؤون الدولة، كما كان المؤسس يمشي راجلاً من بيت نصيف مروراً بشارع قابل وسوق الندى وإلى بيت باناجة، حيث كان يستقبل الناس في المقعد، وكان يصلي مع الضيوف والمصلين بجميع مستوياتهم في مسجد الحنفي المجاور لبيت باناجة.
وأضاف العمري أيضاً في مكاتباته لسمو الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني سابقًا أن فكرة هذا المسار تقدم بها الشريف محمد بن علي الحسني بتأكيد معلومة تاريخية تمثلت في نزول الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه في بيت نصيف، وكان طوال فترة إقامته الطويلة يمشي راجلاً من بيت نصيف إلى مسجد الحنفي بجدة التاريخية.
وعلى ضوء ذلك تم التنسيق بين الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني وبين دارة الملك عبدالعزيز، والتي أكدت صحة هذه المعلومة، لافتة إلى أنه تبين ورود ذلك في كتاب «أعلام الحجاز» الجزء الثاني للمؤلف محمد علي مغربي.
واستطرد «العمري» أن الهدف من إطلاق تجربة هذا المسار التاريخي المهم جداً هو قيام المرشدين السياحيين المرخصين ومنظمي الرحلات السياحة المعتمدين بإدراج هذا المسار المهم واعتماده كمسار تاريخي مع المسارات السياحية في جدة التاريخية، لأهميتها من الناحية التاريخية الوطنية.
إن منطقة جدة التاريخية مليئة بالإرث الرائع الذي لايزال خفياً على الكثير من المؤرخين لتبقى جدة عبر كل الأزمنة والعهود منارة علم وحضارة ومكانة عظيمة، وهي من تراث الوطن المتجذر في الأرض حاضراً، ومستقبلاً.
** **
- محمد بن علي الحسني الشريف