حمّاد بن حامد السالمي
عشنا أيام فرح شعبي مبهج بمناسبة اليوم الوطني 91 . لأن القاعدة في هذا الوطن العظيم؛ هي حب الكل لوطن الكل، وفرح الكل بنجاح التجربة الوحدوية الذي يتأكد عامًا بعد عام.
وحتى نؤكد نجاحات قياداتنا منذ توحيد هذه البلاد حتى اليوم؛ فلا ينبغي أن نكتفي بالتعبير عن فرحتنا بهذه المناسبة في وقتها فقط؛ ثم نركن للدعة والراحة. الفرحة الحقيقية الكبرى؛ تأتي بحجم الحدث الذي تحقق على يد المؤسس والموحد (الملك عبدالعزيز) طيب الله ثراه، وتعني الاستمرارية في العمل الجاد المثمر في كافة الميادين والمجالات، لكي تظل بلادنا تسير إلى الأمام نحو القمة، بكل همة وعزيمة واقتدار، وأن نستلهم العبر والدروس من مرحلتي التأسيس والتوحيد، ففي هذا الاستلهام؛ نبراس يقودنا إلى سر النجاح العظيم الذي حققه المؤسس والموحد رحمه الله، والذي أخذ به أبناؤه من بعده؛ لتحقيق الكثير والمزيد من النجاح لصالح العباد والبلاد.
إن أعظم درس يؤخذ من الذي تحقق على يدي (الملك عبدالعزيز) رحمه الله؛ هو الانتصار العظيم الذي حققه على ثلاثي الشر في هذه البلاد بكافة أطرافها، شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا.. ألا وهو ثلاثي: (الخوف والجهل والمرض). أرأيتم كيف بنى عبدالعزيز دولته الكبيرة العظيمة المهابة..؟ أزال الخوف من قلوب الناس بالأمن، وحارب الجهل بالتعليم، ولاحق الأوبئة والأمراض بالصحة. عندما توفر للناس الأمن الذي كانوا يفقدونه، وعندما أصبح التعليم في متناول الجميع، وعندما حلت بينهم المستشفيات والأدوية؛ بعد كل ذلك؛ التفت الناس للبناء والعطاء، وأحب الناس وطنًا يعيشون فيه، ويشعرون أنهم يسهمون في تنميته وبنائه لصالحهم ولصالح أبنائهم وأحفادهم.
عندما ذهب عن الناس غول الخوف والجوع والمرض، وانتشر العلم والتعليم بينهم، أخذ أجدادنا وآباؤنا يتندرون بأيام سبقت، ما كان أحدهم ينام إلا وسلاحه بجواره، وكم من جمّالة كان السُّراق يماشونهم في طرقاتهم؛ حتى إذا غفوا وغفلوا؛ سرقوا من حمولاتهم، وكم من أسرة كان لصوص الليل يسرقون عشاءاتهم من فوق مواقد النار..! وكم.. وكم، لا عد ولا حصر لما يقال ويروى عن أيام الخوف والبؤس والمرض. من شاهد قرانا الحجرية القديمة؛ وكيف تركها أهلها وتفرقوا في دور جديدة في السفوح والقمم، بعيدين عن بعضهم؛ يعرف قيمة الأمن الذي تحقق في عهد هذه الدولة الفتية. ذلك أنه قبل عبدالعزيز؛ لم يكن بوسع الناس إلا السكن بجوار بعضهم، والاحتماء بحصون مشيدة، ودور حجرية.
هذا ما فعله المؤسس والموحد رحمه الله، الذي نحتفل كل عام بما تحقق على يديه من منجز التوحيد. كان الملك عبدالعزيز شخصية نهضوية بطبعه، يتطلع إلى الأمام بكل عزيمة وهمة. توفر على عقلية فذة، وذكاء خارق، وولاء منقطع النظير للمكان والزمان، حتى الإنسان. حين سخر وقته للبناء. بناء الإنسان بالعلم، وبناء المكان بالتعمير وفتح الطرق، وتوطين البادية، واستثمار الزمان لصالح الإنسان والمكان، بكل ما أوتي من قوة.
بهذه المناسبة العظيمة؛ ترد قصة فيها أكثر من درس- وليس ما يتبادر إلى الذهن في علاقتها بجدار في قصر- فيذكر أمين الريحاني في كتابه: (ملوك العرب)؛ أن الملك عبدالعزيز أثناء بناء قصر المربع، مرّ فلاحظ أن (الأستاذ البناء)؛ قد كتب على مدخل قاعة الاستقبال البيتين التاليين من قديم الشعر العربي:
لسنا وإن كرمت أوائلنا
يومًا على الأنساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا
تبني.. ونفعل مثلما فعلوا
إلا أن الملك عبدالعزيز؛ سارع وطلب من البناء أن يُعدّل البيت الأخير ليصبح هكذا:
نبني كما كانت أوائلنا
تبني.. ونفعل (فوق) ما فعلوا
القصة تحمل أكثر من مغزى، ففيها دلالة على حرص الملك المؤسس والموحد على وضع منهجية لبناء دولة لا تتقيد بزمن مضى، أو تتوقف عند حد معين، دولة تبني وتعلو لتصل إلى ما لم يصل إليه من سبق من الأمم. نعم.. هذا هو القائد الكبير المؤسس والموحد صاحب الوعي المبكر، وهذا هو نهجه القيادي الكبير الذي أخذ به، فسار بثقة وعزيمة ونظره إلى الأمام دائمًا. إن من يكثر الالتفات إلى الخلف؛ تكثر عثراته، وتقل وثباته. وكأني بهذا الملك الهمام -وهو الخارج من غبار المعارك، إلى ساحة القيادة لدولة مترامية الأطراف، وشعب من قبائل متعددة، وطرائق متنوعة- يتمثل قول الشاعر:
إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ
فَلا تَقنَع بِما دونَ النُجومِ
فَطَعمُ المَوتِ في أَمرٍ صَغيرٍ
كَطَعمِ المَوتِ في أَمرٍ عَظيمِ
سَتَبكي شَجوَها فَرَسي وَمُهري
صَفائِحُ دَمعُها ماءُ الجُسومِ
قَرَبنَ النارَ ثُمَّ نَشَأنَ فيها
كَما نَشَأَ العَذارى في النَعيمِ
وَفارَقنَ الصَياقِلَ مُخلَصاتٍ
وَأَيديها كَثيراتُ الكُلومِ
يَرى الجُبَناءُ أَنَّ العَجزَ عَقلٌ
وَتِلكَ خَديعَةُ الطَبعِ اللَئيمِ
وَكُلُّ شَجاعَةٍ في المَرءِ تُغني
وَلا مِثلَ الشَجاعَةِ في الحَكيمِ
وَكَم مِن عائِبٍ قَولاً صَحيحاً
وَآفَتُهُ مِنَ الفَهمِ السَقيمِ
وَلَكِن تَأخُذُ الآذانُ مِنهُ
عَلى قَدرِ القَرائِحِ وَالعُلومِ