د.عبدالله بن موسى الطاير
حام الأمريكيون كثيرا في الأجواء قبل الهبوط في سوريا معلنين سلسلة من الانقلابات، إلى تمكين إسرائيل، ثم الحضور العسكري تحت ذريعة حماية إمدادات الطاقة التي تنتج في الشرق الأوسط وتصدر للعالم. ولاحقا تورطت أمريكا في الاحتلال العسكري المباشر لكل من أفغانستان والعراق. وبعد سبعة عقود ونصف العقد تصل أمريكا إلى قناعة بأن كلفة المسؤولية باهظة جدا، وتقدرها في أفغانستان فقط بأكثر من 300 مليون دولار في اليوم. ولذلك يعتقد أنها اتخذت قرار الانسحاب وترك الشرق الأوسط لمصير تقرره دوله وبقية اللاعبين الإقليميين كما فعلت بريطانيا من قبل.
والسؤال الذي يشغل بال الباحثين هو عن كينونة هذا الانسحاب، وما إذا كان إعادة تموضع، أو ممارسة الإدارة والتحكم عن بعد، والاكتفاء بالحد الأدنى من دعم الهيمنة الثقافية والاقتصادية وطريقة الحياة الأمريكية على اعتبار أنها وصلت لمرحلة من قوة الدفع الذاتية القادرة على بسط نفوذها دونما تدخل مباشر من واشنطن، أم أن أمريكا تريد قطيعة فعلية مع الشرق الأوسط المُكلف.
الحوارات الأمريكية، التي حظيتُ بطرف منها خلال زيارة قصيرة لواشنطن، تتنازعها الأهواء الحزبية والأيديولوجية، غير أن هناك إجماعا على أن أمريكا أخفقت في إخراج انسحابها من أفغانستان، وأنها تفاجأت بعدم قيام حرب أهلية كانت تأمل في نشوبها، لتمرير انسحابها بهدوء، ولذلك تكيل الاتهامات لحكومة أشرف غني وتنفي علمها بالمدى الذي وصل إليه الفساد في كيان الدولة الأفغانية، وتستغرب الوهن الذي أصاب نحو 300 ألف جندي أفغاني تم تأهيلهم على مدى عشرين عاما. هناك سخرية واضحة من تكرار «المفاجأة» التي أصابت الأجهزة الاستخباراتية على مدى خط زمني طويل نسبيا. والمصادفة العجيبة أن معظم الفشل بتوقع الأحداث الجسام تصيب شظاياه منطقة الشرق الأوسط تحديدا. الاستخبارات الأمريكية فشلت في توقع سقوط شاه إيران، وفي توقع الغزو العراقي للكويت، وفشلت في معرفة خطة تنظيم القاعدة ومن يقف وراءه في الهجوم على أمريكا صبيحة يوم 11 سبتمبر 2001م، وتفاجأت أمريكا بسقوط الموصل في يد داعش، كما تفاجأت مؤخرًا بسقوط كابل، وكامل أفغانستان بيد حركة طالبان.
أحد الأصدقاء من الباحثين الأمريكيين يرفض التصديق أن أمريكا قادرة على توقع كل الأحداث ناهيك عن التحكم فيها، وضرب لي مثلا بعدة أحداث في المنطقة لم يكن لأمريكا علاقة بها؛ ومن ضمنها الربيع العربي، وهو مدار الخلاف الذي احتدم بيني وبينه أثناء النقاش. إنه يعد التصديق بقوة أمريكا وسيطرتها على مفاصل الأحداث في الشرق الأوسط اطراء يتمنى لو كان حقيقيا.
ما يمكن أن يخرج به الشخص من خلاصات سريعة من واشنطن يؤسس لاعتقاد أن أمريكا، وإن انسحبت من وجودها المادي في الشرق الأوسط، فإن تأثيرها وقوتها تبقي المنطقة في حالة تهيب من الغضب الأمريكي وأسلحته العابرة للقارات، وعقوباتها التي تعيق حركة الأفراد والمؤسسات والدول. وأن أمريكا تحاول أن تعيد للقوى التقليدية في المنطقة المتمثلة في مصر والسعودية وتركيا وإيران الدور الأبرز في تسيير شؤون المنطقة وإعادة الاستقرار إليها. لكنها في ذات الوقت تدرك نقاط ضعف كل من تركيا وإيران، فالأولى جزء من تحالف غربي أطلسي له مصالحه، وتعاني تركيا بدرجة من التقلبات السريعة في سياساتها بحيث يصعب التنبؤ بخطواتها القادمة. أما إيران فإن الولايات المتحدة الأمريكية مؤمنة بأن نظام الولي الفقيه لن يتنازل عن سعيه للهيمنة؛ لأن ذلك جزء أصيل في قوة النظام وبقائه، كما أنه لن يسمح بانفتاح الشعب الإيراني على العالم وهي الفرصة التي تنتظرها أمريكا. تبقى السعودية ومصر، وهما الدولتان اللتان حظيتا بزيارة مهمة لمستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، الركيزة والرافعة الرئيسة لمستقبل الشرق الأوسط. عرُفت السعودية تقليديا بأنها المحول الذي يدور حوله التضامن الإسلامي، ومصر بأنها محور التضامن العربي، وعلى الدولتين تحمل مسؤولياتهما والانخراط بشكل أكبر في ترتيب شؤون المنطقة. تخشى أمريكا أن يؤدي انكفاء الدولتين، وتركيزهما على مصالحهما الداخلية إلى تراجع دورهما في التأثير في قضايا المنطقة، ومن ثم ضعفهما في توجيه مجريات الأحداث. لذلك تضغط أمريكا للدفع بالسعودية ومصر إلى الواجهة، على اعتبار أن المناخ الجيوسياسي والنطاق الجغرافي المسمم لن يسمح للمشاريع الداخلية بتحقيق النجاحات المطلوبة، ولذلك فلا بد من الموازنة بين الاهتمام بالداخل ولعب دور قيادي إقليمي إيجابي يعيد المنطقة إلى رشدها، بينما تفتح أمريكا منطقة فوضى جديدة في آسيا الوسطى والمحيط الهندي.