م. بدر بن ناصر الحمدان
التاسع والعشرون من شهر سبتمبر، خريف 2021م، الساعة الثامنة مساء، في الطريق إلى «الدرعية»، لحضور حدث ما، قد لا يتكرر كثيراً، يجلس بالمقعد الجانبي زميل متخصص في علم الآثار، قرّرت أن أُقِلّه معي لمرافقتي في ذلك المساء، كوننا نقطن في الحي نفسه، ونعمل في حقل واحد، بالرغم من اختلافاتنا الكثيرة، إلا أن لدينا أشياء مشتركة، أولها أننا نؤمن بالرحلة مهما كانت طويلة وشاقة.
ونحن نمخر عباب الأرض إلى وجهتنا، قلت له: أتدري، قال: ماذا ، قلت: هل ترى ناطحات السحاب تلك، قال: نعم، قلت: أجزم أنها ستكون تراثاً عمرانياً بعد 100 سنة، وسيكون هناك من ينادي بالمحافظة عليها كإرث عمراني تقليدي معاصر، كونها أحد مكونات الهوية المحلية للعاصمة الرياض في مرحلة مبكرة من نشأتها، وربما تتحول مع الزمن هي والمنازل المحيطة بها إلى فنادق تراثية، ونزل ريفية، ومراكز ثقافية، ووجهة سياحية يزورها الناس لاكتشاف تاريخ المدينة، وسيصطحبون أطفالهم لتلك المباني الشاهقة - التي تم تدعيمها من خلال تقنيات نووية كبديل لهندسة الإنشاءات الحالية والتي أصبح ينظر إليها كطرق تقليدية في البناء - لمشاهدة كيف كان يعيش ويتسوق أجدادهم ، وربما سيكون بداخلها متحف يعرض أول تذكرة لحضور السينما أو أول رحلة للمترو، وسيشاهدون مقاطع قديمة عندما كان الناس يستخدمون السيارة في تنقلاتهم قبل دخول عصر المركبات الطائرة، بل يمكن أن يحتوي على صور لموسم الرياض الذي بدأ منذ 100 سنة وأصبح ينظر له كمهرجان شعبي للأجيال التي عاشت آنذاك عام 2021م.
نظرت إلى هذا الزميل وإذ به يحدق بالجسر الذي نهمّ بالصعود إليه، قال لي: أتشاهد هذا الجسر، قلت له: نعم، قال: أجزم أنه سيأتي متخصصون في علم الآثار بعد 500 سنة للتنقيب عن هذا الجسر الذي سيطمره الزمن تحت الأرض، وسيجدون طبقات الأسفلت هذه ليستدلوا بها على تاريخ الجسر وامتداده وآثار استيطان البشر حوله في حي «حطين» و»الملقا»، وسينشئون حينها متحفاً يعرضون فيه نتائج حفرياتهم، وسيُعرض فيه «جهاز آيفون 13» كأقدم وسيلة اتصال بشرية بدائية بين البشر في هذه الحقبة، وربما يعثرون عليه في إحدى الحفريات الأثرية بجانب رفات مجموعة من الشبّان دُفنوا في مقهى بعد عاصفة رملية اجتاحت المدينة (كمثل الهياكل العظمية التي وجدت ومعها جرّه)!، حينها أيقنت أننا على وفاق، وإن بدا الأمر وكأنه من الخيال العلمي، لكنه يشبه ما حدث من قبل ولم يتنبأ به أحد.
عند دخولنا للدرعية ووسط صخب تلك المعدات والإنشاءات المدنية والمواقع التي تحت التطوير، قال لي: ألا تُقلقك هذه الأعمال في هذه المدينة التاريخية، فقلت له: لا، على الإطلاق، فأنا من مدرسة الترميم الجريء، وأن القاعدة التي تعلمتها في مجال التراث العمراني هي أن أي مُكوّن للتراث لا يتم تطويره وإعادة تأهيله سيشكل عبئاً كبيراً على المدينة - مهما كانت أهميته -، وسيفقد قيمته، ويخرج من حياة الناس، ويغادر إلى المتحف وسيبقى هناك في حالة من التحنيط حتى ينتهي به الأمر، ما لم يندمج مع الوظائف العمرانية للمكان، لا يمكنك إقناع هؤلاء الناس بأهمية التراث إلا بتقديمه كمُنتج منافس يتفاعلون معه.
انتهى بنا المسير، وترجلنا عند بوابة الدخول، استقبلتنا فتاة يافعة تُمثّل عنواناً للمرحلة الجديدة، تفصل بيننا وبينها مسافة عشرين عاماً، وأشياء أخرى نمتلكها ولا تعرفها، وتمتلكها هي ولا نعرفها نحن، في طريقنا إلى حيث التاريخ «مكاناً»، و»حدثاً»، توقفنا أمام إطلالة على مشهد لمنصة تراث «غير مألوف» يصنعون فيه المستقبل، لأجيال قادمة، ويحتفون بتراث هو بمثابة ثروة ثقافية ووطنية، ويعلنون عن خطة حمايته وإدارته وتمكينه وتطويره بشكل مستدام، الحكاية ستبدأ من هنا من جديد، تماماً مثل ما بدأت قبل 91 عاماً.
كان ذلك الحدث، نقطة انطلاق عنوانها «هيئة التراث».