لا شك أن للأسرة دوراً كبيراً في ترميم الواقع الاجتماعي للمريض النفسي، فأفراد المجتمع حينما يتفاعلون ويختلطون مع بعضهم البعض بدافع فطرتهم الاجتماعية وتحقيق المصالح والمنافع المشتركة فإن ذلك يوضح جلياً مدى ارتباط الفرد بمجتمعه وبمن يحيطون به وخصوصاً أن الأسرة هي نواة المجتمع والمؤسسة الوحيدة التي يقع عليها عبء تحويل العضو البيولوجي إلى كائن إنساني اجتماعي وتدفعه لخوض معترك الحياة حتى يمكنه الاستقلال بشخصيته وتكوين هويته وكينونته بين الآخرين.
وخلال مشواره في الحياة تعترض طريقه بعض العِقاب والصعاب والتي من الطبيعي حدوثها لبني البشر وتبعاً لذلك تتباين المواجهات وردود الأفعال، حيث نجد أن البعض يمكنهم المواجهة لمشكلاتهم وتجاوزها فيما لا تتمكن شريحة أخرى من تجاوز مثل هذه المواقف والأزمات، حيث يقعون فريسة سهلة للمتاعب والمنغصات والتي تعتبر البوابة الرئيسة للأمراض النفسية.
وعلى الرغم من أن هناك شريحة من المتخصصين في علاج الأمراض النفسية يرون أن الوراثة تلعب دوراً على جانب كبير من الأهمية في تكوين ركيزة الاستعداد الفطري للإصابة بالهزات النفسية ومع ذلك فإنه لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل الواقع الاجتماعي المحيط بالمريض وذلك كعامل مهم في إشعال فتيل الاستعداد الوراثي كما أن هناك فئة من الأطباء النفسيين يحمّلون المجتمع برمته التسبب في حدوث الأمراض النفسية.
وفيما يتعلّق بالظروف الحياتية التي تؤثِّر في حياة المرضى النفسيين فإن هناك عدة محاور يمكنها التأثير في حياة المرضى النفسيين بعد عودتهم إلى حياة السوية وهي تتمثَّل في الآتي:
- فقدان الجو العائلي بسبب الوفاة لأحد أفراد الأسرة أو انفصال الأبوين أو أن تكون ظروف أسرته مضطربة وأفردها يميلون بشدة لانتقاد تصرفاته ولا يترددون في نعته ببعض الصفات التي تثير في نفسه بالإحباط والضيق.
- إبداء الأسرة أو أحد أفرادها شعوراً بعدم الرضا والتقبل لوضع المريض، حيث يعتبرون وجوده في محيط الأسرة وصمة عار ومصدر قلق لأفرادها وخصوصاً إن كانت تتمتع بمكانة اجتماعية مرموقة.
- حرمان المريض من أبسط حقوقه وعدم إتاحة الفرصة أمامه لإبراز قدراته وإمكاناته نظراً لفقدان الثقة فيما يصدر منه من تصرفات كما قد يعمد بعض الأفراد للسخرية من تصرفاته وأقواله وأفعاله مما يحبط المريض.. فلا وظيفة بسيطة أو عملاً يسند إليه ولا تشجيع أو تأهيل يحصل عليه.
- عدم وجود دخل مادي ثابت للمريض وكل هذه الظروف منفردة أو مجتمعة تؤدي في معظم الأحوال إلى انتكاسة المريض النفسي.
وكل هذه الظروف مجتمعة تعتبر النافذة الأساسية في الانتكاسات التي تصيب معظم المرضى النفسيين وعودتهم للمصحات النفسية من جديد.
ولكن السؤال الذي يفرض نفسه ويشرع ألسنته بحجم المدى. هو كيف يمكن الوصول إلى علاج ناجع يمنع انتكاسة المريض النفسي؟ وللإجابة يمكن القول إنه يمكن تحقيق ذلك وصياغة مشاعر المريض بشكل إيجابي ومنها تهيئة البيئة الاجتماعية الطبيعية لاستقبال المريض ومن أهمها:
- تبني برامج مدروسة وملائمة لإقامة علاقات وثيقة بين أسر المرضى والمؤسسات العلاجية التي تشرف عليهم. فدورها لا يتوقف عند حد تقديم الخدمات العلاجية فحسب ولكنها مطالبة بالاشتراك مع الأسرة في تقديم خدمات تأهيلية من أجل صياغة الواقع الاجتماعي والنفسي للمريض وإكسابه سلوكيات جديدة وحسنة تمكنه من التعايش مع وسطه الاجتماعي بكل اطمئنان وارتياح.
- قيام المجتمع بدوره المأمول، إذ يفترض منه تقبل المريض النفسي ومعاملته معاملة حسنة وبث روح الثقة وإشعاره بقيمة وقدرة على العطاء وخدمة مجتمعه كغيره في حدود إمكاناته وطاقاته.
ويؤكّد ما سبق معظم البحوث الاجتماعية والدراسات النفسية التي ركّزت على العلاج داخل البيئة -الوسط الاجتماعي- على اعتبار أن الفرد لا يمكنه العيش بمعزل عن مجتمعه فهو كائن اجتماعي بطبعه. وفي كل الأحوال لا بد له من العودة إلى بيئته الأسرية والمجتمعية.
** **
- مشرف وحدتي التدريب والبحث العلمي بمركز العلاج النفسي مستشفى الصحة النفسية بالطائف.