د.فوزية أبو خالد
1
شكلت عودة معرض الكتاب إلى أرض الرياض بعد عزلة الجائحة تظاهرة ثقافية رسمية شبابية بامتياز على مستوى الإعداد والتنظيم وتظاهرة اجتماعية على مستوى الحضور ونوع الحضور والوعي. وقد كنتُ من المحظوظين الذين حملتهم أشواقهم إلى معرض الكتاب.. ولم تكن تلك الأشواق أشواق القراءة والاطلاع وحسب ولا أشواق معرفية خالصة، بل كانت أيضاً أشواقاً وجدانية لإعادة التعارف والاجتماع بين الناس.. إذ جاء معرض الكتاب كحالة خرق جماعية لحصار العزلة الذي طوَّق العالم لعامين مع محاولة الالتزام بـ»تباعد رومانسي» بما يعيد الاعتبار للحب العذري، حيث لا تماس وإن تأججت المشاعر
* * * * *
2
بكل التوق حجزتُ موعداً «رومانسياً إلكترونياً» لي ولاثنتين من صديقاتي من بوابة معرض كتاب الرياض الإلكترونية وقمت بربطه بتطبيق «توكلنا» حسب الإرشادات.. التزاماً بالشروط الصحية للمعرض والمطلوبة اليوم كشرط لازم لدخول أي من فضاء قطاعات العمل والتسوق والترفيه وسواها في تعميم سلوك مسؤول وحضاري يشمل كافة مناطق المملكة..
وبتُ على قلق في انتظار وقت الموعد العزيز مع سموات الكتب.
ظُهر السبت الخامس والعشرين من شهر صفر 1443هـ الموافق الثاني من أكتوبر 2021م سقتُ سيارتي على طريق الثمامة بمزاج متحفز ووجهتي واجهة الرياض..
محفوفة بحنين معتق في أعماقي وبمكارم أخلاق الشباب أمامي من شرطة مرور وموظفي أمن الواقف على مداخل المعرض سرتُ يصحبني لطفهم ولطف شابات وشباب التنظيم إلى بهو المعرض وردهاته ونقاط البيع فيه ومنصات الأنشطة الثقافية، وقد لفت نظري بحنان ذلك الزهو الذي يؤدي به الشباب مهامه البسيطة وليست بسيطة في هذه التظاهرة العامة. لم أتوقف لأسأل نفسي عن العلاقة بين هؤلاء الشباب وبين تظاهرة الكتب التي يحتفون بها ومعظمهم من فئة عمرية لا تنتمي لأجيال أوعية المعرفة الورقية إلا أن السؤال برق في خاطري وأنا أراهم يمارسون إخلاص العمل دون أن تنفك سطوة الجوال عن أيديهم.. على أنني لم أتوان عن ممازحة بعض الواقفين على رأس العمل خصوصاً في نقاط البيع كمساعدين في العديد من دور النشر وهم ينتظرون الزبائن أو يجيبون على أسألتهم على عجل فيما رؤوسهم مغروسة في الجوال أو الخليوي كما تسميه بعض البلاد العربية بقول: «أليس الانغماس في الجوال في حضرة مهابة الكتب دعاية عكسية للكتب إن لم تكن خيانة للكتب نفسها في عقر دارها وفي لحظة عرسها وعيدها العام؟!»
* * * * *
3
سرتُ من الثانية ظهر ما قبل صلاة العصر إلى الساعة الثامنة والنصف ما بعد صلاة العشاء ووجدت نفسي بجسدي المكبل خارج جسدي أطير. تحركتُ مرة بروحي ومرة بأحلامي بين أروقة الكتب وعلى الممرات العريضة والضيقة بين جنبات الكتب وأنهار بعضها وقيعان بعضها الآخر إلى أن تفككت عظامي وفَضَت جيوبي وانطفت بطارية جوالي ولكن أجنحتي لم تتعب وعطشي الوجداني والعقلي لم يرتو ووجهي ظل متورداً وعيوني ملتمعة وابتسامتي لا تكف عن إضاءة ملامحي من تحت الكمامة وإرسال سلام مختلس وسافر معاً لأصحاب قدامى وأصحاب جدد من مؤلفي الكتب ومريديها. فجأة عدتُ طفلة للتو تكتشف حب أول اسمه نعمة الكتب منجم الكتب مغارات اللغة كنوز الذاكرة أطياف المستقبل حرير الأحلام وحرقة الحروف المخبأة بين دفتي كتاب. فجأة وجدت معرض كتاب الرياض يعيد إنتاج قصة «اليس في بلاد العجائب» ويتوجني بطلة لها، بكل ما في قصة الأطفال تلك من مفاجآت وتحديات وبكل ما نثرته من ريشة الدهشة في القارات وعبر الأجيال.. فبدت الكتب وكأنها تستعيد مجدها بقوة كآلة الزمن السحرية الوحيدة التي يستطيع القارئ أو بالأحرى العاشق بها تأخير أو تقديم سنوات العمر وتحريك الجبال.
* * * * *
4
ومع افتقادي لألفة المكان التي عهدتها لسنوات سابقة من عمر معرض الكتاب ما قبل الجائحة على أرض المعارض على طريق الملك عبدالله بحي الواحة بالرياض بما أن المعرض يُقام لأول مرة بواجهة الرياض، فإنني لا أستطيع إلا الاعتراف بحس الغبطة وأحاسيس أخرى بعضها غامض وبعضها وضاح بعودة الماء بعد كوفيد 19 إلى عروق مدينة الرياض وعروق سكان الرياض وعروقي.. شعرتُ في المعرض وبين الكتب بنوع عزيز من الاستبشار المشتهى بالحرية مثل ما تسبق رائحة المطر بشائر الوسم.
* * * * *
5
في هذه الموجدة الطفولية عن تظاهرة الكتب كنتُ حقاً مشغولة عن الملاحظات النقدية الصغيرة والكبيرة في معرض الكتاب من الغلاء المُبالغ في أسعار الكتب إلى بعض الفجوات التنظيمية بين السياق الإلكتروني والسياقات على أرض الواقع وسواها وإن لم أعم عنها، غير أنه لا بد من إرسال تحية صادقة مني وباقة حبر وريحان لكل المجهولين والمعلومين من أبطال هذا المشهد الثقافي مخططين وميدانيين.
ويبقى أن جيلاً حياً عريضاً كان بوده أن يكون مشاركاً بطيش الإبداع وبحكمة العمر واختمار التجربة كعنصر عامل تطوعاً أو استشارة أو تفاصيل في هذه العمل الثقافي المضني الجبار على قدم المساواة مع الشباب ويدا بيد مع اجتهادهم وجهدهم التجديدي.
* * * * *
6
1- تحية لرواد المعرض جميعاً الذين زهونا بانتمائهم لكل أطياف المجتمع السعودي والعربي وللمزيد من التعدد والتنوّع الممثّل لنا وللكتاب في معرض الكتاب.
2- تحية لوزارة الثقافة وكوادرها جميعاً ومسانديهم على سنة أولى في تجربة معرض الكتاب بالرياض ولتجارب لتأتي مئة عام للأمام.
3- مبروك للمملكة ولنا وللشاعر الأمير خالد الفيصل جائزة الإبداع الشعري من معهد العالم العربي بباريس.
4- تحية للعراق العريق في ضيافة المملكة العربية السعودية على الجسر الثقافي لمعرض الكتاب بالرياض.
5- تحية للموسيقار العربي العراقي الأصيل المجدد نصير شمة، فقد كنا نلاحق إبداعه الموسيقي من بلد لبلد إسبانيا، مصر، معرض فرانكفورت للكتاب ... إلخ فيأتي طائر الرعد لقلب الجزيرة العربية النابض على جناح الثقافة، وكم كان بودي حضور أمسيته الموسيقية المنتظرة لولا أن خانتني شروط العالم الافتراضي المراوغة أحياناً فلم أستطع شراء ثلاث تذاكر فقط في حينه كما تمنيت. تحية للينا الطيبي وليلة نصير شمة.
وليس أخيراً
كل تظاهرة ثقافية لمعرض الكتاب وخبز الحرية وحبرها وملحها بين الأجيال والأطياف في ازدياد.