د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
قبل ستة أعوام، وتحديدًا في 3-11-2015م، كتب صاحبكم إشارةً سريعة حول أستاذنا أبي بشار، وأسماه: «رئيس تحرير التحولات الثلاثة»، وعنى بها: نقلَ «صحيفة الجزيرة» من مرحلة الطفولة إلى الفتوة حين حولها إلى صحيفة يومية 1972 - 1984م، وهذا هو التحول الأول، ثم استعادتَها من الهرم إلى الشباب في فترته الثانية 1999 - 2015م، وهذا الثاني، وبقي التحولُ الثالث، ولعله أهمُّها، وتمنى حينها أن يتوج مسيرته الصحفية بتحولٍ جديدٍ يقوده «فلقُ» الرقم و»غسقُ» الورق.
** مرحلة التحدي هي مرحلةُ الأرق والقلق، والصورة اليوم صورةٌ غيرُ بيضاء، ومستقبل المؤسساتِ الصحفيةِ يحتاج إلى قراراتٍ في مستوى الكيِّ؛ فالمسكناتُ تتكئُ على التسويف، والتأني يفترضُ انتظار ما لا يُنتظر، وكل يومٍ يمرُّ يُضيف اعتلالًا ولا يتوقعُ إبلالا.
** كتب الأستاذ المالك وكثيرون عن وضع الصحافة الورقيةِ بما لا مزيد، ومن لدنهم إلى لدنَّا لم تُطرحْ حلولٌ ولم تُعرضْ مبادرات، بل إنها صارت ميدانًا لاستفهاماتٍ ساخرة: (أما تزال تصدر؟ من يقرأُها؟) - وهو منطقٌ مُبرّر؛ فلم تعد المادةُ الصحفيةُ كما كانت، ولم يبقَ الصحفيُّون مثلما عُهدوا، وانفضَّ الكُتّابُ أو معظمُهم، وتوقفت المكافآتُ أو كادت، بل إن التنافسَ في ازدياد للتعبير عن تحجيم، بل تلجيم دورها، وهنا درسٌ شموليٌ لتأثير الانطباعاتٍ المبعثرةٍ التي قد لا تملك منهج الحجاج، ولكن:
ومن دعا الناسَ إلى ذمّه
ذمُّوهُ بالحقِّ وبالباطلِ
** ليس لصاحبكم أسهمٌ يدافع عنها، ولا مصالحُ يخشى عليها؛ فهو متعاونٌ عابرٌ وإن طال لُبثُه، وإنما يكتبُ كي لا يتراكم الوقت فوق الوقت؛ فلا أفقَ لعودة الصحافة الورقية، ولا معلنَ سيعتني بالصحافة الإلكترونية؛ فكلتاهما في معاناةٍ ماديةٍ وتحريرية.
** الحلُّ ميسرٌ وإن كان موجعًا، وهو قرارُ وقفِ الطباعة وبيعِ المطابع والمباني أو تأجيرها، وإلغاءِ الاشتراكات والتوزيع، مع مواصلة إصدار الجريدة إلكترونيًا بأيسر التكاليف، وقَصرِها على ما تُثريه التقنية من لقطاتٍ سريعة، وحواراتٍ قصيرة، وأهداف كُرةٍ، وحفلاتِ ترفيه، وشيءٍ من أخبار الفن والرياضة والاقتصاد والمنوعات، ولفترةٍ مؤقتةٍ يُنظرُ بعدها في مواصلة الإصدار الإلكترونيّ أو إلغائه لتنعيَ المؤسساتُ نفسَها بنفسِها في خاتمة أزمنة الصحف الرقمية والورقية.
** في إدارة الأزمات تجيء القراراتُ صعبةً، وقد تبدو عصية، ولكنَّ التغاضيَ عن الوضع اليوم سيلدُ ما هو أقسى غدًا، وسبق لأستاذنا المالك أن أوقف «المسائية» بالرغم من عدم رضا محبيها، كما أوقف إصدار «الجزيرة» يوم السبت بهدوء، ولا ضير إن أضاف أيامًا سواه؛ فقد حان الجِدِّ وارتحل الجَدّ.
** وللمزيد؛ فإن من يتأملُ المشهد سيدرك أن الصِّحافة ليست وحدها من يعاني؛ فالإذاعة والتلفزيون الرسميّان في طريقهما للانحسار، وقد يبقى من الصحف «أمُّ القُرى»، وفيها كفاءٌ، ومن المحطات المرئية والمسموعة اثنتان، وسيقاومُ الفناءَ في هذه الوسائط ما يرفدُ موازنتَه بموارده الذاتيَّة لا الخارجية.
** التحولُ قرارٌ واستقرار.